+ A
A -
لكل لغة عبقريتها في التعامل مع المستجد من الأحداث والأمور، وليست اللغة العربية بعيدة عن هذا، وقد تعاملت اللغة العربية مع آلاف الأشياء عبر عصورها، ولاسيما في القرنين الأخيرين اللذين ملأتهما الاكتشافات والاختراعات والتطورات في العلوم الإنسانية والتطبيقية، حتى قولنا «العلوم الإنسانية» اختراع حديث، وكان الأولى القول «العلوم النظرية». وذات يوم اخترع الراحل المفكر والكاتب والصحفي القومي الدكتور كلوفيس مقصود (رحل في17 مايو 2016) كلمة «مصداقية» كترجمة لكلمة CREDIBILITY وسادت في الأحاديث والكتابات.
أطلت في هذه المقدمة لأصل إلى أن من حق كل كاتب أن يقترح كلمة جديدة، قد تكون ترجمة لكلمة أجنبية أو اشتقاقاً أو نحتاً من كلمة متداولة، أو تعريباً لكلمة أجنبية (أي إدخال الكلمة في المعجم) كما هي أو بتحويرها قليلاً، بشرط ألا يكون في العربية كلمة تؤدي المعنى نفسه، وهذا ما فعله أحد الكتاب الصحفيين المشهورين عندما كتب «تضليل الرأي العام وإحراف القضية» والمصدر «إحراف» من فعل «أحرف» ولكن هذا الفعل غير موجود في اللغة، وما نجده هو «حرَف حرْفاً» أي أبعده عن طريقه المرسوم.
قد يكون محموداً لكاتب ما أن يحيي كلمة قديمة، فيوردها في كتابات جديدة، ولكن بشرط ألا تكون من التقعر، وقد دعونا دائماً إلى التيسير في اللغة. كتب أحد الكتاب المخضرمين «واهتبل فرصة انشغال الحكومة» وقد غيرت لأنني لا أريد التسمية، ونفهم من سياق الكلام أنه وجد فرصة فاقتنصها، ولن ندخل في شرح فعل «اهتبل» والطريف في أمره أنك يجب أن تبحث عنه في باب «نيل» في المعجم وليس في باب «هبل»، فما ضر صاحبنا لو قال «واغتنم» أو «وانتهز»؟
قلت كثيراً إن العتب دائماً على قدر العلم والخبرة. وليس الخطأ دائماً في مخالفة الكاتب لقواعد النحو العربي، بل قد يكون لمخالفة الصياغة الصحيحة. قرأت مقالة لكاتب يزين اسمه بلقب دكتور وتعريفه (باحث في علوم اللغة) والمقال من سلسلة عن فقهاء اللغة، قال الكاتب متحدثاً عن سيبويه (ما إن يذكر النحو العربي إلا ويذكر سِفره العظيم الكتاب «قرآن النحو»).
يجب أن نلاحظ أنه يتحدث عن أعظم علماء النحو العربي، وكل من جاؤوا بعده عالة عليه وتلاميذ له، وعندما نقرأ جملته نخال أن كتاب سيبويه يسمى «قرآن النحو» لكن الحقيقة أن سيبويه لم يضع لكتابه عنواناً وسمي مؤلـَفـُه «الكتاب» فإن قال أحد نظرت في الكتاب، فإنما يعني كتاب سيبويه، وكان على الباحث أن يوضح هذا فيكتب «إلا ويذكر سفره العظيم المسمى «الكتاب» ويعده النحويون قرآن النحو».
أما خطؤه الذي سيعاقبه عليه سيبويه فهو قوله «ما إن يذكر النحو العربي إلا ويذكر» ولا يرضى سيبويه بهذه الصياغة، ويعرف المتعلمون كلهم أن الصياغة الصحيحة «ما إن يذكر النحو العربي حتى يذكر» ويمكن له أن يورد صياغة أخرى «لا يذكر النحو العربي إلا ويذكر»
ومتابعة للعتب على قدر المعرفة والخبرة، عتبت على كاتب مخضرم سميته دائماً «ذا اللغة الرشيقة» ومن حسن الحظ أنه نادراً ما يتطرق إلى شؤون السياسة اليومية فلها عشرات من الكتاب، لكنه أخطأ فقال «الرجل الذي تنطـّح للمهمة» ويجعلنا هذا نعود إلى الجذرين «نطح ونطع»
نطح الحيوان ضرب بقرنيه، ومن النادر أن تلجأ حيوانات من غير ذوات القرون إلى النطح كوسيلة دفاعية، وليس من مشتقات هذا الجذر فعل «تنطح». أما الفعل «نطع» فلم يرد هكذا، وأشهر ما يشتق منه «النطع» (بكسر النون وفتحها) وهو قطعة كبيرة من الجلد، كانوا يضعونها ليعدموا الناس فوقها بالسيف، ومن هنا القول المشهور «سيفاً ونطعاً يا غلام»
ومن المشهور أيضاً «تنطـَّع» وهو فعل لا يعني ما نقصده الآن أي «تصدى للأمر وتقـدم». التَّـنطـُّعُ في الكلام الـتَّعـمُّـقُ فـيه، وفي الحديث هَـلـك المُتـنَطِّعُـونَ، هم المُتعَمِّقُون المُغالون في الكلامِ الذين يتكلمون بأقصى حلوقهم تكَبُّراً كما قال النبي، صلى الله عليه وسلم إِنَّ أَبْغَضَكُم إِليّ الثَّرْثارُونَ المُتَفَيْهِقُون، وهو مأْخوذ من النِّطَعِ وهو الغارُ الأَعْلى في الفَم، ثم استعمل في كل تعمُّق قولاً وفعلاً. إذن كان على الكاتب رشيق العبارة أن يقول «تنطع» والأفضل أن يقول «تصدى».
أعود إلى النسبة وهذه المرة مع كاتب مشهور يحاول أن يسلي نفسه والقارئ أحياناً بمقالات خفيفة، وبعضها في الشعر واللغة. ومما قال في مقالة عن النسبة «القاعدة العامة هي في ردّ الكلمة إلى المفرد ثم صوغ النسبة، لذلك كانت طالبي أصحّ من طلابي، وصحفي أصح من صُحُفي» وهكذا أصاب في التعريف وأخطأ في التطبيق. قبلوا «طلابي» كي لا تشتبه النسبة «طالبي» مع المنتمي إلى الإمام علي بن أبي طالب كرم الـلـه وجهه، أو إلى آل «أبي طالب» عم رسول الـلـه صلى الـلـه عليه وسلم. أما قوله «صحفي أصح من صُحُفي» فخطأ، فليس هنا «صحيح وأصح» بل القول صُحُفي خطأ، وليست النسبة إلى صحافة بل إلى صحيفة وهي «صَحَفي» كما نقول مدني نسبة إلى المدينة، وحنفي نسبة إلى حنيفة، ونذكر أن الفرد من أتباع الإمام أبي حنيفة يقال له «حنفي» ومنه المذهب الحنفي.
لا نجد ما يمنع من إيراد أي كلمة قديمة بهدف إحيائها بشرط ألا يتعثر القراء في قراءتها وأن تكون مفهومة، وليس الكاتب مقياساً للفهم، بل يجب أن يتصور القراء وهم العامة. قال الكاتب ذو اللغة الرشيقة عن ديكتاتور عربي «جعل الشعب عبيداً وسدنة» والكلمة الأخيرة يجب ضبطها بالشكل لتسهل قراءتها فهي سَدَنة بفتح السين والدال، ونفهم من العطف أن السدنة يشبهون العبيد أو هم الخدم، وهذا صحيح، ولكنهم خدم من نوع خاص جداً، وهي خدمة تعطي صاحبها القائم بها شرفاً، لأن «السَدَنة» خدام البيت الحرام، وكانت «السِدانة» في الجاهلية لبني عبد الدار، فأقرهم النبي صلى الـلـه عليه وسلم عليها، وهكذا أورد الكاتب كلمة غير مفهومة للقارئ الآن، وأعطاها معنى سيئاً، وكان الأولى به أن يقول «عبيداً وخدماً»
نعود إلى التذكير بأن الأفعال العربية نوعان نوع يتعدى بنفسه إلى مفعوله، ونوع يتعدى بحرف جر ومن الأفعال التي يخطئ كثيرون في تعديتها فعلا «اعتاد وتعوّد» وكلاهما مشتق من فعل «عاد» بمعنى رجع، ويأتي بمعنى زار المريض، فنقول عاده عيادة، والفاعل في الحالين عائد، و»العُوَّد» زوار المريض. والخطأ الذي يقع فيه كثيرون أنهم يجعلون فعلي «اعتاد وتعود» يتعديان بحرف الجر على، وهذا من العامية، والأصل فيه أن الفعلين (وهما بمعنى واحد) يتعديان بنفسيهما دون حرف جر. ذكرني بهذا كاتب مخضرم سميته صاحب اللغة الرشيقة حين قال «وأنا معتاد على مشاهدة الأخبار» ولعل ما اضطره أنه استخدم اسم الفاعل، ولو أنه قال «وقد اعتدت مشاهدة الأخبار» لتجنب الخطأ. ووقع في خطأ مشابه حين قال «وأنا مدمن على» وفعل «أدمن» كفعل اعتاد يتعدى بنفسه.
بقلم- نزار عابدين
copy short url   نسخ
15/05/2017
1618