+ A
A -
لا شك أن فوز «إيمانويل ماكرون» بالدور الثاني للانتخابات الرئاسية الفرنسية، يحمل معه الكثير من الدلالات، التي تجعل من هذا الانتصار نقطة انطلاق لمرحلة سياسية جديدة، لعل عنوانها الكبير هو بشكل أو بآخر نهاية التوازنات الحزبية التي ظلت تطبع الجمهورية الفرنسية الخامسة منذ أكثر من نصف قرن. إنها المرة الأولى في تاريخ الجمهورية، التي لا يصل فيها مرشح يميني للدور الثاني، والمرة الأولى التي تطيح فيها نتائج الانتخابات بالقوتين السياسيتين في البلاد، إلى الهامش.
نهاية دورة التناوب يسار/ يمين، في الواقع هي إحدى خلاصات انتخابات 2017 غير المسبوقة في يومياتها وفي زلزالها، لكنها- أكبر من ذلك- هي اليوم إحدى علامات التحول على مستوى الحزبية الأوروبية الجديدة، حيث إن ما يحدث منذ سنوات قليلة في اليونان وإسبانيا وإيطاليا وهولندا وبريطانيا.. يتضمن معالم تجاوز الثنائية الحزبية التي ظلت مهيكلة للحياة الانتخابية في الكثير من تلك البلدان، ومؤشرات بروز تيارات حزبية جديدة بقيادات شبابية بمرجعيات سياسية مختلفة (يسارية /وسطية...)، وطبعا دون نسيان المظاهر الأكثر مشهدية لهذا التحول والمرتبطة بتصاعد المد الشعبوي في صيغته اليمينية المتطرفة أو في تعبيراته القومية المتشددة. التفكير في الانتخابات الفرنسية، انطلاقا من هذا التشخيص، يجب ألا يغيب في التحليل، سياق فوز «ترامب» و«البريكزيت». ذلك أنه بالرغم من هزيمة مرشحة الجبهة الوطنية،والتي ظلت تقدم العالم الجديد لـ«ترامب» و«البريكزيت» و«بوتين»، كإحدى حججها الانتخابية القوية، فإن هذا لا يجعل من فرنسا استثناءً كاملا عن تحولات السياسة والحزبية الغربية، ذلك أن وصول الجبهة الوطنية في حد ذاته للدور الثاني، يظل مؤشرا كبيرا على ارتطام المجتمع الفرنسي بهذه الموجة القوية للتحول، فضلا عن حصولها على قرابة 35% من أصوات الناخبين، وفشل خطاب «التعاقد الجمهوري» في عزلها كظاهرة سياسية «غير طبيعية»، وتحول العديد من مقولاتها السياسية (الأمن،الهوية،الإسلام،الهجرة..) إلى مواضيع ذات أولوية في النقاش العمومي. كيف يمكن قراءة هذه التحولات؟ أن نهاية حقبة التناوب يسار/يمين، تعني كذلك نهاية مرحلة التقاطب حول السياسات الاجتماعية لما بعد حقبة دولة الرعاية، بين الجوابين الليبرالي والديمقراطي الاجتماعي.
ذلك أن التقاطبات الجديدة داخل هذه الدول، أصبحت ترتبط بالقضايا المجتمعية الحرية الفردية، العلمانية، أكثر مما ترتبط بالقضايا الاجتماعية (العدالة الاجتماعية، ساعات العمل،الضغط الضريبي...)، كما أن قضايا مثل الهوية الوطنية والعولمة،تحولت إلى صدارة النقاش.
هل يعني هذا أن الغرب ينتقل من حالة صراع الأيديولوجيات إلى حالة صراع القيم؟ أم أن الصراع الأيديولوجي سيستمر لكن انطلاقا من مرجعيات قيمية وليس من محددات المشروع الاقتصادي والاجتماعي؟ المؤكد اليوم أن الأطر الأيديولوجية التقليدية لم تعد قادرة على استيعاب الشرخ القيمي داخل المجتمعات الغربية، والذي أصبح يخترق العائلات السياسية اليمينية واليسارية على السواء. وهذا كذلك واحد من دروس فوز «ماكرون»،الذي قدم عرضا سياسيا بعيدا عن اليسار وعن اليمين، لكن ليس بمنطق «أنطوني كيدنز»، حيث يمكن التركيب بين الحرية والمساواة، ولكن بمنطق التركيب بين الحرية السياسية والحرية الاقتصادية، وهو منطق سيستطيع في النهاية أن يفجر تناقضات الثنائية الحزبية التقليدية، المبنية من جهة على يسار مؤمن بالحرية السياسية ومتحفظ من الحرية الاقتصادية، ومن جهة أخرى على يمين مؤمن بالحرية الاقتصادية ومتحفظ من الحرية السياسية.
بقلم : حسن طارق
copy short url   نسخ
12/05/2017
3785