+ A
A -
طِرْ من أجل الغرض، من اجل أن تقطع الطريق نفسه الذي قطعه أسلافك، وللغاية ذاتها؛ الذهاب للحصول على الغذاء، والعودة بنفس الطريقة، ليس أكثر من هذا. لا أفكار إضافية، لا تصرفات طائشة، ولا ابتكار من أي نوع. هذا ما كان يلقنه النورس الأب، للنورس جوناثان: «إذا كان لا بد أن تدرس شيئًا، فلتدرس الطعام، وكيف تحصل عليه. مسألة الطيران هذه لا بأس بها بالمرة، ولكنك لا تستطيع أن تأكل انزلاقًا منخفضًا في الهواء، كما تعلم. إياك أن تنسى أبدًا أنك تطير لتأكل». كذلك الأم لم تبخل بالنصائح:» لماذا يا جون؟ لماذا لا تترك الطيران المنخفض للبجع وطائر القطرس؟ لماذا لا تأكل؟ لقد صرت ريشًا على عظم يا بنيّ!» لكن جوناثان، ذلك النورس المولود برغبة لا تقاوم، رغبة غير مألوفة لدى بقية أقرانه؛ أن يطير بطريقة مختلفة، ومميزة، ولا تخضع للقواعد الموروثة عن الأسلاف، أن يذهب أبعد، أن يرتفع أكثر، وأن يحلق بطريقة غير آمنة، لكنها جميلة وممتعة، أراد أن يأخذ الوظيفة إلى المتعة، والتكرار إلى الدهشة، والروتين إلى الابتكار، معالجة هذا الصراع كان موضوع الرواية، السهلة، والعبقرية: «النورس جوناثان ليفنجستون» للروائي الأميركي ريتشارد باخ. معالجة تمت خلال الأجزاء الثلاثة، التي نشرت من قبل، ثم في الجزء الرابع الذي نُشر بعد نصف قرن، وضم أخيرا إلى بقية الأجزاء، وترجم في الطبعة الصادرة عن دار الكرمة سنة 2016م، كان هذا هو روح الصراع الذي كان مسرحه الأفكار الوادعة للنوارس، المحكومة بالعادة، والمستريحة إلى إرثها الصارم فيما يخص تقاليد الطيران، والمعترفة باستسلام تام بحقيقة عجزها عن المنافسة، كان هذا قبل أن يظهر بينها هذا المختلف، والقلق، والشاذ، والخارج عن الأعراف والتقاليد، كان هذا حكمها عليه، تبعه النفي النهائي من مملكة الوداعة الذي أراد تخريبها بطموحه غير المعقول جوناثان. لكنه استمر، وخلال الأجزاء الثلاثة من هذه الرواية القصيرة، والعبقرية، تمكن من الوصول إلى غايته، وأصبح يطير مثل صقر، ويحلق مثل من اكتشف الحقيقة، ويبتهج مثل من وضع يده على سر؛ السر الخالص للطيران، بعيدا عن كونه وسيلة. وصل إلى فردوس العباقرة، مكث هناك لفترة، لكن حبه الخالص إلى نوعه من النوارس، دفعه إلى العودة، لتعليم أجيال جديدة سر هذا الاكتشاف، ونجح، وأصبحت النوارس تطير مثلما لم تفعل من قبل، تطير بالطريقة الذي حارب من أجلها، وأثبت إمكانية الوصول لها بعد سنوات من الجهد والكفاح والنفي والحرمان.
ثم يكتمل هذا العمل في الجزء الرابع، الذي نشره المؤلف بعد نصف قرن من الأجزاء الثلاثة الأولى، إذ لم يكن يشعر بالرضا عن هذا الجزء وقت كتابته، وفضل أن تنتهي قصته عند هذا الحد. لكنه الجزء الأكثر أهمية على الإطلاق، إذ أنه يصور كيف من الممكن ان تنقلب التعاليم إلى تكريس فارغ عندما يساء فهمها، وكيف يتحول الرمز المجدد إلى رمز مُقدس، ويفقد، خلال هذا التحول روح ما بشر به وما ناضل من أجله..
هذه الرواية الرمز، والحية، والواصفة بشكل عظيم ما يحدث في رحلة التميز والبحث عن الذات في مواجهة التقليد، والنمط، يمكن إسقاطها بشكل مباشر على الطبيعة البشرية في كل مكان وكل تاريخ، إن ما حدث للنورس جوناثان ليفنجستون، هو ما يحدث لأغلب البشر الموهوبين، عندما يغيب الوعي الاجتماعي والتربوي اللازم لتلقي الاختلاف بروح منفتحة وعقلية متفهمة. وأيضا عندما يتم تحويل التعاليم من دورها الفاعل والمحرك، إلى نصوص فارغة، وتقديس جامد، وهي الهفوة التي يسقط فيها كل الأتباع، عندما يتخلون عن الفكرة العظيمة التي جاء بها المعلم الأول.
بقلم : ضيف فهد
copy short url   نسخ
07/05/2017
3921