+ A
A -
إن الشخص المنتقد لنفسه لن ينحرف عن جادة الصواب أبدا، مهما كانت الإغراءات ومهما كان الأمر صعبا. ونادرا ما تلتقي أو تسمع عن شخص يتكلم عن عيوبه ويتجاهل عيوب الآخرين، نادرا ما تجد شخصا ناضجا يعترف بأنه ما زال يتعلم من غيره! لم يجد الإمام أبو حنيفة حرجا من أن يحكي قصته مع صبي صغير علمه درسا كبيرا، إذ كان يسير في الطريق ذات يوم، فوجد طفلا يلعب وأمامه حفرة، فهتف محذرا: «يا غلام إياك والسقوط»، فرد الغلام بطلاقة: «بل إياك أنت يا أمام أن تسقط، فإني إن سقطت.. سقطت وحدي، أما إذا سقطت أنت فقد سقط معك العالم».
واعترف شاعر الفرس الأول «سعدي شيرازي» أن أول درس في الأخلاق تلقاه من والده حين كان في التاسعة من عمره، فهو يقول: «لا أزال أذكر أنني كنت في عهد طفولتي مولعا بالسهر والتهجد تماما مثل أبي.. وفي ذات ليلة قعدت لخدمة والدي والمصحف الشريف في حجري، أقرأ منه ما شاء الله أن أقرأ، ولم يغمض لي جفن، وكان الجماعة الذين أتوا للسمر عندنا قد غرقوا في النوم، فقلت لأبي مزهوا بنفسي: إن واحدا من هولاء لم يرفع رأسه ولم يتهجد بركعتين، ولقد استغرقوا في نومهم فكأنما هم أموات. فقال لي: يا ولدي يا فلذة كبدي لو أنك نمت أنت أيضا لكان خيرا لك من أن تمزق جلود خلق الله!
وأثناء شبابه وكان مسافرا لزيارة القدس وقع أسيرا لدى جماعة من الفرنج، فقام تاجر من بلاد الشام بدفع فدية لإنقاذه من الأسر، ولم يعرف كيف يعرب عن شكره سوى بالتقدم للزواج من ابنته التي عُرف عنها سلاطة اللسان، على عكس والدها الدمث الأخلاق، ووصفها سعدي في بيتين موجزين:
سيئة الخلق بدار الخير جهنم من قبل يوم الحشر
حذار من أمثالها حذار وقل قنا ربنا عذاب النار
وذات مرة رفعت صوتها عليه وعيرته بجميل أبيها قائلة: ألست أنت ذاك الذي اشتراك أبي فأعتقك من قيد الفرنجة بعشرة دنانير. فرد عليها قائلا: بلى هو الذي اشتراني بذلك المقدار وأوقعني بأسر يديك بمائة دينار.. ولم يستطع التحمل أكثر من ذلك فطلقها وعاد إلى بلاده دون أن تعلم أنها إضاعته.. وأي فتى أضاعت! وعاش هذا الشاعر حتى كاد يبلغ المائة عام، ورغم أن شهرته غطت الآفاق خلال عمره المديد إلا أنه ظل يتعلم من غيره حتى مات.
وذكرت الأستاذة والأديبة «سهير القلماوي» حادثة بسيطة تركت أثرا في نفسها وذلك حين كانت تدرس لنيل درجة الدكتوراة في فرنسا، إذ قال لها أستاذها وهو رجل في الثمانين يتفجر حيوية ونشاطا حسب وصفها له «لا تتعبي نفسك يا ابنتي بقراءة الكثير، ولكن أتعبي نفسك في فهم ما تقرأين، فليس العلم أن تعلمي، وإنما العلم أن تعرفي كيف تعلمين.

بقلم : وداد الكواري
copy short url   نسخ
04/05/2017
18515