+ A
A -
سأعود إلى إبداء هذه الملاحظة ألف ألف مرة: إذا لم تمتلك أدوات الكتابة فلا تقترب منها. لا تهمنا روعة الموضوع الذي تطرحه، ولا الأفكار التي تعبر عنها، ولا الرأي الذي تسوقه، إن كنت تعرض بضاعتك بلغة سقيمة تنفر القارئ بدلاً من أن تجذبه. والمصيبة أننا في بعض الأحيان نترك الركاكة والصيغ المغلوطة لكثرة ما في مقال واحد من الأخطاء النحوية و«الإملائية» أي نعم الإملائية، هل تتصورون كاتباً يخطئ في قواعد الإملاء؟

«لتصحيح أخطاءهم» ولم ينتبه صاحبنا إلى أن الهمزة صارت متوسطة، وتتبع بالتالي الحركة الأقوى وهي حركتها، ويجب أن تكون «أخطائهم». وبعد قليل «الذي يدعوا الرجل إليه» هذا فعل للجمع إن كان مجزوماً أو منصوباً، وأصله «يدعون» لكن الكاتب يتحدث عن مفرد. «يتوصل إلى أرقاماً» وماذا يفعل حرف الجر هنا؟ في كتاب «أخبار الحمقى والمغفلين» لابن الجوزي أن أحدهم كان يصلي بالناس إماماً فقرأ في الفاتحة «ولا الظالين» فضربه مصلٍّ أحمق منه في ظهره فقال: «آخ يا ضهري» فقال الآخر «لو وضعت الضاد والظاء في المكان الصحيح لكنت في عافية» ويظهر أن صاحبنا كهذا الإمام الأحمق واقرؤوا: تاريخنا الفضيع (الفظيع) وكل بدعة ظلالة وكل ظلالة في النار (ضلالة) اكتضت القاعة (اكتظت) لم يحضين بفرصة (يحظين) ما نحن فيه من

ظلال، والظلال رائعة لاسيما في مواسم الحر، ولكن المقصود (ضلال) فيظطرب الطلاب (يضطرب).

لا يجوز أن تفرض على القراء جميعاً اللغة العامية لبلد عربي واحد، ففي مصر مثلاً يقولون «الياي» وهو يقصدون جزءاً من الملابس حل محل الأزرار، ولكن العرب الآخرين لا يعرفونها، ويقولون «الكالون» ويعنون القفل، و«الليمان» ويعنون السجن، فلماذا لا يستخدم المحررون هاتين الكلمتين بدلاً من الكلمتين المغرقتين في المحلية؟ قرأت في إحدى صحفنا المحلية خبراً علمياً تثقيفياً عن فوائد «عين الجمل» وهو اسم «الجوز» في العامية المصرية، فهل يعرف العرب جميعاً هذه التسمية؟

أخطأت كاتبة مشهورة جداً فقالت «خمسة عشر لوحة» مبحث الأعداد طويل في النحو العربي وكان عليها القول «خمس عشرة لوحة» لأنها تتحدث عن مؤنث، وبدلاً من هذا كان يمكن أن تهرب وتكتب «15 لوحة» وليقرأها كل قارئ كما يريد. وقالت: «وغفل عائداً إلى الحقل» نعرف أن بعض العاميات الخليجية تقلب القاف غيناً وبالعكس، ولكن ليس في الكتابة الصحفية الأدبية، الصحيح «وقفل عائداً» ولماذا هذا التفاصح؟ لماذا لم تكتب «وعاد إلى الحقل»؟

الامتراء في الشيء: الشك فيه وكذلك التماري، والمِراء: المماراة والجدل، وامترى فيه وتمارى: شكّ وفي التنزيل العزيز: فلا تُمارِ فيهم إِلاَّ مِراءً ظاهراً؛ قال: وأَصله في اللغة الجِدال وأَن يَستخرج الرجلُ من مُناظره كلاماً ومعاني الخصومة. وفي صفة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يُشاري ولا يُماري: يُشاري: يَسْتَشْري بالشر، ولا يُماري: لا يُدافع عن الحق ولا يردّد الكلام. والمرية كالامتراء: الشك. وتلاحظون أن كل ما ذكرناه لغة قديمة معجمية، أو لم تعد مستخدمة على الرغم من ورود بعض الكلمات في القرآن الكريم، ومن هنا أستغرب من كاتب كبير مفكر مشهور أن يقول: ولا مِرية في أنها... يا سيدي، ربما فهم ما تريد بضعة من القراء، فماذا عن القراء الآخرين؟ إن الكلمة تعني الشك، فلماذا لم تقل: ولا شك في أنها.. ألم يكن الجميع سيفهمون ما قلت؟ رجوناكم ونرجوكم أيها المثقفون أن تبتعدوا عن التقعر واستخدام الكلمات الصعبة، والقاعدة الذهبية التي قالها أسلافنا العظماء: التقعر بين العامة كاللحن (الخطأ النحوي) بين الخاصة.

سميت أحد الكتاب يوماً بأنه «الكاتب الذي يتباهى بالخطأ» لأنه كان يصر على ضبط عناوين مقالاته وبعض كلمات النص أيضاً بالشكل (الحركات) وكان يخطئ، فهل كان عديم الثقة بالمحرر والمدقق اللغوي والقارئ؟ وهذا كاتب آخر مشهور وإعلامي وضيف دائم على الفضائيات ووزير سابق يضع عنواناً لمقالته «من يهن يسهلُ الهوان عليه» والضمة فوق اللام من عنده، وهذه الجملة هي الصدر (الشطر الأول) من بيت للمتنبي:

من يهن يسهل الهوان عليه

مــا لـجــرح بـمـيّـت إيـلام

ولم ينتبه الكاتب إلى أن «من» اسم شرط، واسم الشرط يجزم فعلين إن جاءا مضارعين، ومن الأمثال: من سار على الدرب وصل.. ومن طلب العلى سهر الليالي.. ومن أشهر الأمثلة قول الحطيئة:

من يفعلِ الخير لا يعدمْ جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس

وهو أكمل بيت في الشعر العربي. ونعود إلى صاحبنا، لو أنه سأل لعرف أن اللام في يسهل مجرورة لالتقاء الساكنين، وهي في الأساس مجزومة لأنها جواب الشرط: من يجتهدْ ينجحْ، وكان الأفضل له أن يترك الكلمة دون حركة على اللام ليقرأها القارئ كما يشاء.

لن ألوم بعد اليوم محرر المنوعات وصفحة التسلية في الصحيفة عندما يخطئ في نقل بيت من الشعر لأن كاتباً صحفياً من أشهر الكتاب العرب، ويدعي أنه درس الأدب العربي في الجامعة قال في إحدى مقالاته: الإمام الشافعي قال:

ولولا الشعر بالعلماء يزري

لكنت اليوم أشعر من جرير

لاحظوا أولاً الأسلوب الإنجليزي في صياغة الجملة، وقد عاتبته مرة وقلت: تبدو مقالاتكم كأنكم كتبتموها بالإنجليزية ثم أوكلتم إلى جوجل ترجمتها، وكان عليه أن يكتب: قال الإمام الشافعي. أما في الشعر فقد خانته ذاكرته، ولم يبحث عن البيت في مصادره، ولو أنه فعل لوجد الشطر الثاني: لكنت اليوم أشعر من لبيد، والمقصود الشاعر المخضرم لبيد بن ربيعة أحد أصحاب المعلقات. ولم يكسر الوزن، وربما خدعه أن «لبيد» و«جرير» على وزن واحد هو «فعولن» التي ينتهي بها البيت وهو من البحر الوافر.

ويبقى أمر هذا الكاتب أهون من كاتب سوري ومعارض بارز ورئيس تيار في المعارضة، إذ نشر مقالاً في إحدى الصحف العربية المشهور وضع له هذا العنوان «بئسنا... وقد انتصر الأسد» واحترت في قراءة الكلمة الأولى، وقرأت المقال مرتين فلم أجد ما يشير إلى المعنى المقصود، هل كانت الكلمة «يئسنا» ولكن خطأ مطبعياً وضع الباء بدلاً من الياء؟ هل كانت «بأسنا» (من البأس) وأخطأ الكاتب أو الطابع في الهمزة؟ أم هي «بؤسنا» (من البؤس)؟ ربما تتألف الكلمة من مقطعين «بئس» و«نا» أما بئس فأشهر أفعال الذم ويقابل نِعْمَ، و«نا» ضمير الجمع للمتكلم، فالكاتب يذم العرب عامة والسوريين خاصة لأن الأسد انتصر، ولكن فات الكاتب ومن دقق المقال، أن «بئس» لا تتصل بالضمائر، وكذلك «نعم»، هل سمعتم مثلاً من قال «نعمه من رجل»؟



بقلم : نزار عابدين

copy short url   نسخ
12/04/2016
635