+ A
A -
قبل أيام رحل سمير فرنجيه، الشخصية اللبنانية الاستثنائية التي تركت بصماتها على تاريخ لبنان المعاصر بفكره السياسي المبدع، وثقافته الواسعة، وبقدرته الفذة على الإحاطة بالصيغة اللبنانية، وسعيه الدؤوب والخلاق لتطويرها مع مفاهيم العصر وقيم الحرية والمواطنة.
نشأ في كنف عائلة إقطاعية امتد نفوذها السياسي من بلدة في شمال لبنان وصولا إلى «عصبة الأمم» حيث اعتلى والده وزير الخارجية حميد بك فرنجيه المنبر عام 1946 خطيبا من أجل انتزاع جلاء الجيوش الأجنبية عن لبنان وسوريا. ولاحقا، عام 1970 انتخب عمه سليمان فرنجيه رئيسا للجمهورية. وشهد عام 1978 مجزرة اغتيال ابن عمه مع عائلته. غير أن سمير الشاب المتمرد كان قد انتقل إلى الضفة الأخرى صحفيا يساريا ناقما على النظام اللبناني ومناصرا لثورة الشعب الفلسطيني.
ولكنه عرف كيف يحتفظ بما ميز والده من بين القادة اللبنانيين من ذكاء ووسع أفق وثقافة ونزاهة. وفور اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، عرف كيف يوظف هذا المزيج الذي تمتع به بين ثقافته الحديثة وهيبة العائلة وإرثها السياسي. وراح يلعب دور «الإطفائي» من موقعه بحثا عن خيط تواصل بين المتحاربين، من ياسر عرفات إلى بشير الجميل إلى وليد جنبلاط، بعد أن أدرك خطورة المنزلق بين اللبنانيين والفلسطينيين من جهة، وبين اللبنانيين أنفسهم المسيحيين والمسلمين من جهة أخرى. لمع نجمه بسرعة ليصبح إلى جانب رفيق الحريري أحد مهندسي «اتفاق الطائف» (1989) الذي وضع حدا للحرب، وأنتج تسوية لإعادة بناء الدولة على أسس جديدة، فأطلق عليه منذاك لقب «البيك الأحمر».
رجل حوار بامتياز وباحث عن نقاط الالتقاء مع الآخر، أسس في بداية التسعينيات مع مجموعة من الناشطين والمثقفين، من بينهم العلامة السيد هاني فحص (رحل خريف 2014)، «المؤتمر اللبناني الدائم للحوار» من أجل ارساء السلم الأهلي وخلق «شبكة أمان» لسلام لبنان، وهو التعبير المحبب على قلبه. كان من أشرس المعارضين للهيمنة السورية على لبنان رغم التهديدات التي تعرض لها، وكانت أهم تعبيراته تشكيله «لقاء قرنة شهوان» الذي جمع عام 2001 الأحزاب والشخصيات المعارضة برعاية البطريرك الماروني نصرالله صفير. غداة اغتيال رفيق الحريري عام 2005 كان هو من أعلن «انتفاضة الاستقلال» إلى جانب جنبلاط وسعد الحريري، التي أجبرت بشار الأسد على سحب جيشه بعد احتلال دام نحو ثلاثين سنة. ولم يجد حرجاً في الذهاب إلى «حزب الله» لإقناع حسن نصرالله بخيار «العودة إلى لبنان» والتسليم بشرعية الدولة.
لعب على مدى سنوات دور العقل المفكر والضمير الساهر لقوى 14 آذار. ولم يتوان عن رفع الصوت ناقدا ومعترضا يوم بدأ قادتها مسلسل التنازلات والمساومات. لم تبهره السلطة ولم يكترث للمناصب، باستثناء انتخابه مرة واحدة نائبا في البرلمان عام 2005 عاد بعدها إلى موقعه محاورا باحثا عن التواصل مع الخصم قبل الحليف..
دمث الخلق، متواضع، وصاحب شخصية قوية. ساحر في لغة الإقناع، ويصغي بانتباه. براغماتي في السياسة، حازم في الثوابت وليّن في السعي إلى الهدف. ظل في صلب اللعبة السياسية من دون أن يتحول واحدا من سياسييها المحترفين. همه الأساس طوال سنوات ما بعد الحرب التوفيق بين ركيزتي العقد الاجتماعي اللبناني، المواطنية والتعددية الطائفية. أي حق الأفراد في التمتع بحقوق المواطنة الكاملة من خلال دولة القانون، وحق المجموعات الطائفية في الاطمئنان إلى حضورها ودورها في تقرير قضايا الوطن الكبرى. «العيش معا» في دولة مدنية ديمقراطية هو الشعار الذي عمل له طوال حياته السياسية. لم يعرف الإحباط أو اليأس، وكان على الأكثر يكتفي بضحكة ساخرة للتعبير عن امتعاضه!
وثق تجربته بكتاب صدر له مؤخرا بعنوان «رحلة إلى أقاسي العنف»، والمثقف الكبير عباس بيضون «غرد» قائلا إن لبنان خسره: «نودعه لأن هذا النموذج لن يعود، وهذه البلاد لن تنجب كل يوم سمير فرنجيه، ولأن الوطن يزداد ضعفا برحيله، لبنان والحياة لا يستحقانه، والموت أيضا»!
بقلم: سعد كيوان
copy short url   نسخ
18/04/2017
2952