+ A
A -
لا ينتظر من السياسيين فقط خوض دروب جديدة يحققون بها مصلحة، وإنما يتوقع منهم أيضاً أن يعرفوا كيف يخرجون منها بسلامة عند الضرورة. فمسالك السياسة وعرة والسير فيها محفوف بالمخاطر والتراجع عنها لا يقل أهمية أحياناً عن المضي فيها. وهذا ما يجعل وضع استراتيجيات للخروج من التحالفات وتغيير السياسات بنفس أهمية التفكير في سبل الدخول فيها. فاستراتيجيات المخرج من أبجديات وأصول التفكير السياسي. وبرغم هذا كثيراً ما يجري العصف بها حتى ممن يفترض ألا يتجاهلوها من المتخصصين والمنتسبين إلى حقل الدراسات السياسية.

أحد الخبراء العرب المشاهير ممن كانوا مقربين إلى حزب الله قبل أكثر من عشر سنوات ظل يتفاخر بالتزكية التي قدمها للحزب في 2006 بخوض حرب ضد إسرائيل، مع أن قادة حزب الله أنفسهم اعترفوا بعد أن توقفت الحرب بأنهم لو كانوا قد فكروا مسبقاً في كل العواقب وتدبروا المخرج لما كانوا قد اشتبكوا مع إسرائيل في تلك الجولة من الصراع. لكنهم لم يفكروا في استراتيجية للخروج ولا فكر فيها الخبير الذي نصحهم.
حتى الدول المتقدمة لا تهتم دائماً، برغم ما لديها من مراكز بحوث ومتخصصين مرموقين، بما يقدم لصناع القرار فيها من استراتيجيات مخرج لو خابت السياسات التي يتبنونها. بل كثيرا ًما دخلت تلك البلدان في سياسات بدون استراتيجيات واضحة للخروج. الاتحاد السوفياتي مثلاً لم يملك استراتيجية للخروج من أفغانستان فواصل البقاء متكبداً خسائر باهظة. كذلك لم يكن لديه مخرج من سباق التسلح مع الولايات المتحدة طيلة الحرب البادرة فتحمل خسائر مالية فادحة كانت من بين العوامل التي أدت إلى ضعفه وانهياره. ولم يكن لدى الولايات المتحدة بدورها استراتيجية مخرج واضحة في فيتنام فبقيت متورطة فيها منذ أن أرسل كينيدي أول 400 خبير في 1961 إلى أن انتهى الصراع في 1975.
إن غياب التفكير في استراتيجيات مخرج شائع حول العالم. والعرب ليسوا استثناءً. يخوض بعضهم مثلاً حروباً لم يفكروا بروية قبل دخولها في كيفية الخروج السريع منها إن لم تحسم الأمور كما كان مقدراً. ودخل بعضهم الآخر في تحالفات إقليمية ودولية تصوروا أنها ستكون قصيرة المدى تحقق مصلحة. وبدلاً من أن يخرجوا منها بسلام انقلبت عليهم قيوداً صارمة في الداخل والخارج. كما دخل بعض منهم في علاقات رعاية لجماعات متشددة لم يتم التفكير مبكراً كيف سيكون الخروج منها وهو ما جلب لهم انتقادات من قوى دولية وإقليمية وداخلية.
ويعكس غياب التفكير في المخارج أخطاء عديدة في مقدمتها إساءة فهم معنى السياسة ذاته. فالاختيارات السياسية ليست مكاتبات ورقية يمكن إلغاؤها في أي وقت، وإنما هي قيود لا يمكن التخلص منها بدون دفع ثمن عادة ما يكون باهظاً. كما أن السياسة بطبعها سريعة التقلب ما يجعل السير في مسار جديد فيها محفوف بالمخاطر ما لم يصاحبه من البداية تفكير في طريقة الخروج منه. في السياسة لا يبقى شيء على حاله. يتغير الأعداء ويتغير الأصدقاء وتتقلب التحالفات وتكثر المفاجآت. وإن لم يحسب السياسيون حساب ذلك مسبقاً فإن الأمر عادةً ما ينتهي إلى كوارث لهم ولبلدانهم وإلى كثير من الحلقات الجهنمية المفرغة. والأمثلة حولنا عديدة.
فما هي مثلاً استراتيجية المخرج التي وضعت للحرب الطويلة على الإرهاب والتي يصل عمرها في بعض الدول العربية إلى قرابة قرن؟ قد توجد استراتيجية للدخول في الحرب ضد الإرهاب، لكن لا توجد إلى الآن استراتيجية واضحة تحدد متى وكيف سيكون الخروج منها. وما هي استراتيجية المخرج كذلك من الصراعات المذهبية ومن التوتر السني الشيعي المتكرر؟ لا توجد. وما هي استراتيجيات المخرج من التحالفات العميقة مع رجال المال والأعمال التي تتسبب كثيراً في موجات من الغضب الاجتماعي؟ لا يوجد. وما هي استراتيجيات المخرج من التخلف المزمن؟ أو من الجمود البيروقراطي؟ أو من مفاوضات مع إسرائيل لا تجدي وحروب ضدها لا تغير؟ لا يوجد.
استراتيجيات المخرج فريضة للتفكير السياسي القويم، لا بد أن توضع في الحسبان مع كل سياسة جديدة يتم تبنيها. غياب التفكير فيها إما أن يعد علامة على سوء التقدير وعدم الإلمام بأصول وضع السياسات. أو يعكس وجود مصالح تُعمي العيون عمداً عن مخاطر بعض السياسات. وفي الحالتين يكون الثمن غالياً. فتخاض حروب خاسرة وتضيع موارد هائلة وتنكسر الهيبة وتنحسر الشرعية وتكسر الإرادة. وقد قاست من كل ذلك معظم الدول والشعوب العربية. وليس من خروج من تلك الويلات إلا بإدراك قيمة استراتيجيات المخرج. فالدخول في سياسة دون معرفة كيفية الخروج منها ليس من صميم السياسة في شيء.
بقلم: إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
17/04/2017
2897