+ A
A -
الطلاق بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، عملية اقتلاع صعبة ومكلفة تتقطع بنتيجتها جسور تواصل وقرابة وتندثر تربة خصبة جامعة بين البر والجزيرة.. والفاتورة الباهظة التي تترتب على الانفصال لن تصيب المملكة المتحدة بل القارة القديمة كلها، ذلك أن التجمع الذي أصابه الانفصال هو حوض سياسي واقتصادي ضخم يتجاوز عدد سكانه النصف مليار نسمة ويضطلع بدور محوري في دورة الحياة العالمية.
لقد بدأت هذه المغامرة برمتها بأخطاء تاريخية ارتكبها الطرفان. ومن المرجح حدوث مزيد من التقديرات الخاطئة خلال الأشهر المقبلة، ما قد يؤدي بسهولة إلى تدهور الوضع السيئ أصلاً بما فيه الكفاية، بيد أن الانفصال الودي لايزال ممكناً أيضاً، وفي مصلحة الجانبين.
أصلا لم تكن بريطانيا، يوماً، من المؤمنين بـ«روح» المشروع الأوروبي، ولا كان قادتها من آبائه المؤسسين الذين تعاملوا مع الاتحاد الأوروبي بلغة تبشيرية، بل كانت علاقة الجزيرة البريطانية مع مشروع الاتحاد نفعية بالكامل، فهي رفضت الانضمام إلى الأسرة الأوروبية حتى الستينيات، حين بدا واضحاً أن بريطانيا لا تنمو بسرعة جيرانها، وأنها تتجه لأن تصير من «الدول الفقيرة» في القارة، بينما تشهد فرنسا وألمانيا وهولندا ازدهاراً وتسبقها بمقاييس الدخل والنمو. وحين لم يعد الاتحاد الأوروبي يمثل تلك المنظومة الجاذبة والدينامية، ودخلت الرأسمالية الأوروبية في حالة أزمة، أعاد البريطانيون حساباتهم حول علاقتهم بأوروبا.
لكن فكرة «السيادة»، التي تحفز العديد من كارهي الاتحاد الأوروبي، هي مجرد وهم رومانسي في عالم تهيمن عليه أميركا، وتلعب بريطانيا وأوروبا فيه دوراً محدداً لها. لذا فإن بريطانيا الحالية لن تعود بريطانيا العظمى التي كانت أكبر إمبراطورية على المعمورة حتى منتصف القرن الماضي. وتاليا فإن «البريكست» لن يعيد الزمن إلى الوراء ولن يعيد بريطانيا إلى ما كانت عليه، فهل بالانفصال عن أكبر كتلة للتجارة الحرة في العالم، يمكن لبريطانيا أن تكون دولة عظيمة ومفتوحة للتبادل التجاري، كما تقول رئيسة الوزراء البريطانية؟ وهل بترك موطئ قدم في البر الأوروبي يمكن للندن أن تكون جسرا بين أوروبا وأميركا؟
الأرجح أن المملكة المتحدة تحجز دورها الجديد في المستقبل: قوة من الصف الثاني ولّت أيام مجدها إلى الأبد.
وفي المقابل، فإن خروج بريطانيا من الاتحاد يضعف هذا الكيان سياسيا واقتصاديا ومن شأنه أن يؤثر على استقرار أوروبا الذي تمتعت به طوال عشرات السنين، بعد الحرب العالمية الثانية. في حين ستسعى كل من ألمانيا وروسيا إلى حصد النتائج. برلين التي سعت عبثا في منتصف القرن الماضي للهيمنة على أوروبا بتحالفاتها السياسية أو بالقوة العسكرية ربما قد تدغدغها مجددا أحلام هذه التطلعات التوسعية، لكن هذه المرة باستخدام قوة اقتصادها العملاق وبإغراق الدول الأوروبية الضعيفة اقتصاديا بالديون لإخضاعها تحت جناحها في غياب الرادع البريطاني - الأميركي من الآن فصاعدا. والخلاف السياسي المستجد بين ألمانيا والولايات المتحدة على عدد من المشاكل السياسية والاقتصادية، يعكس هذا الواقع بأن ألمانيا ترى نفسها صاحب أوروبا أو على الأقل ترى لنفسها الحق في الهيمنة السياسية على أوروبا.
أما بالنسبة لموسكو العسكرية فإن الاتحاد الضعيف سياسيا وعسكريا يخدم مصالحها بسهولة، وقد يكون وسيلتها لإخضاع بلدان شرق أوروبا تحت رحمتها وتحت تهديداتها العسكرية كما في زمن القياصرة. ولم يعد سرا محاولات الحكومة الروسية التأثير على المصير السياسي للحكومات في الاتحاد الأوروبي، عن طريق دعمها للأحزاب اليمينية المتطرفة كي تفوز في الانتخابات أو على الأقل يكون لها ثقلها السياسي في ترسيم سياسات تلك الدول.
أوروبا تتغير لكن تفادي الخطر ليس مستحيلا بعد.

بقلم : أمين قمورية
copy short url   نسخ
05/04/2017
2855