+ A
A -
بعد خمسة وعشرين عاما على قيام الإعلام الأميركي، بالترويج لنظرية خرجت من مراكز بحثية، سميت «عالم القلاقل وعالم السلام»، وهذه النظرية تلح الآن على الذاكرة، ونحن نتأمل تصاعد الإرهاب، وامتداد عملياته من منطقة الشرق الأوسط، إلى قلب أوروبا، والغرب عامة.

النظرية التي ظهرت في عام 1993، مضمونها أن العالم الثالث هو منطقة قلاقل، وعنف، وفوضى، وأن ذلك سيستمر ولن يتوقف، بينما الدول الغربية المتقدمة هي عالم السلام، الذي توفره ظروفه، وسياساته، بحيث ينعم بالأمان والاستقرار الدائمين. وبناء عليه ينبغي على الغرب، أن يقيم سياجا متيناً، يفصله عن عالم القلاقل، ويتركه لحالة من عدم الاستقرار المزمن. وهو سياج معنوي، يقوم على سياسات، وتدابير، تحافظ على بقاء القلاقل داخل حدود هذه الدول، دون أن تتمدد خارجها.

لكن؛ مع تطور الأحداث العالمية خلال السنوات الماضية، وحرص من يصنعون استراتيجيات الغرب، خاصة في الولايات المتحدة، ابتدعت السياسة الخارجية الأميركية، نظريات وضعت موضع التنفيذ في بلادنا، منها الفوضى الخلاقة، والشرق الأوسط الكبير، والتدخل في الشأن الداخلي لهذه الدول لأسباب إنسانية. وتضمن ذلك سياسات تعمل على تكاثر منظمات الإرهاب لنشر الفوضى والتمزق الداخلي وتفتيت المجتمعات، مع ثبات اقتناع واضعي هذه السياسات بأن ما اعتبروه «عالم السلام»، سيظل بمنأى عن ضربات الإرهاب، التي ستكون حبيسة حدود دول المنطقة.

ولأنهم صنعوا بأيديهم وحشا مجردا من المشاعر الإنسانية الطبيعية، ويفتقد أيضا لصفات الانتماء والولاء للوطن، فقد فوجئ صانعوه بأنه بدأ يتصرف حسب طبيعته، منغلقا من زمام الإمساك به، وأنه ينقل القلاقل إلى قلب هذه الدول، إلى الحد الذي دفع دولا أوروبية، لأن تتشكك في جدوى ضمان عضويتها في الاتحاد الأوروبي لأمنها، طالما أنها فتحت الحدود فيما بينها، وسمحت بانتقال من يحملون جنسية دولة عضو، إلى دولة أخرى بدون جواز السفر، خاصة بعد أن تبين أن من بين من يستغلون هذه الميزات إرهابيين، يحملون جنسية دول الاتحاد الأوروبي. بل أن دولة كبريطانيا ظهر فيها تيار قوي يدعو للانسحاب من الاتحاد الأوروبي لهذا السبب.

كما أن شخصيات في المخابرات البريطانية منهم سير ريتشارد ديرلوف رئيس جهاز المخابرات الخارجية، قال إن الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، يمكن أن يساعد على تقوية الحدود، ومنع الهجمات الإرهابية.

وحين صدر عن وزيرة الطاقة أندريا ليدسوم، أول تحذير أمني عن انتقال الإرهابيين عبر حدود دول الاتحاد، اشتعلت في الحال مناقشات حول ما إذا كان بقاء بريطانيا في الاتحاد يعتبر هاما للمحافظة على أمنها. وبالطبع كان هناك معارضون أقوياء لهذا الاتجاه، على رأسهم ديفيد كاميرون رئيس الوزراء، وتريزا ماي وزيرة الشؤون الداخلية، ومايكل فالون وزير الدفاع، وكان رأيهم أن التعاون عبر الحدود مع دول الاتحاد الأوروبي يعتبر حيويا لمكافحة الإرهاب.

إن هذا التطور، يثبت أن العالم كله في تكامل مع بعضه البعض، خاصة بعد أن طرأت تغييرات أساسية على النظام العالمي الذي صار مثلما وصفه البعض الآن مثل قرية كونية، وبعد التطور التكنولوجي الذي صاحب عصر ثورة المعلومات، والذي فتح الباب لانتقال الأفكار عبر الحدود، بل وأكثر من ذلك، في تدبير اتفاقات عن بعد، عبر شبكات التواصل الاجتماعي.

وبالتالي فإن الحدود المادية التي صيغت بناء عليها، نظرية عالم القلاقل وعالم السلام، قد انزاحت من مكانها، ولم تعد هي التي تفصل بين دولة وأخرى، أو أن تعزل دولا عن بقية المجتمع الدولي.

الغريب أن الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، صاحبة الرصيد الطويل من علوم الدراسات المستقبلية، كان يفترض أن تتبصر نتائج التطورات التي غيرت العالم، وكانت لها مؤشرات مبكرة، وأن صناعة الفوضى، واستخدام إرهابيين في خدمة مصالحها، هي «منتج» شيطاني، ليس هناك ضمان لطول السيطرة عليه، أو لإبقائه داخل قفص وهمي، يمارس فيه عنفه، وشراسته، ووحشيته، دون أن تتمدد خصائصه تلك، إلى خارج قضبان القفص.

بقلم : عاطف الغمري

copy short url   نسخ
27/04/2016
2265