+ A
A -
كتل من السحب الغائمة، تخيم فوق المشهد السياسي الأميركي، تبثها تعقيدات المشهد من مواقف متناقضة أحيانا للرئيس دونالد ترامب، ومن مظاهر انقسام مجتمعي حاد إزاء الرئيس الجديد، وتزيدها استطلاعات للرأي تقول أن الشيء الوحيد المشترك الذي يتفق عليه الفرقاء المختلفون، هو عدم اليقين بشأن المستقبل، ومن مظاهرات في كثير من الولايات ترفض ترامب رئيسا، يقابلها استطلاعات بين الجمهوريين تؤكد أن الغالبية لا تزال مؤيدة له ولسياساته.
ولأن الولايات المتحدة، كقوة عظمى، ضالعة في صنع أكثرية الأحداث في مناطق العالم المختلفة، وخاصة في الشرق الأوسط، فكان لابد وأن ينعكس ما يجرى فيها الآن، على العالم بمختلف مناطقه. لكن يبقى من وسط الضبابية الكثيفة للمشهد الأميركي، أشياء متجذرة في العقل السياسي الأميركي، تفرض سؤالا بديهيا هو: هل يمكن القول بأن ترامب بكل ما يعلنه ويؤمن به، وبمعاداته للنخبة، وللسياسات المتبعة على طول عشرات السنين، يمثل خروجا على الهوية القومية، وثوابتها الراسخة، أم أنه سيظل رمزا أساسيا من رموزها؟.
إن السياسات في أميركا لها جذور في تاريخ الولايات المتحدة، حيث الفكر السياسي التقليدي غائر في هذه الجذور. والقوة المسيطرة في فهم القومية الأميركية موجودة في كونها نشأت على أساس ما كان يسمى بالعقيدة الأميركية AMERICAN CRD. وهي التي وصفها المؤرخ ريتشارد هوفستادر، بأنها تشكل نظرة الأميركيين إلى مصير بلادهم، وبأنها ليست – كغيرها – في حاجة إلى أيديولوجية، لأنها في نظرهم هي ذاتها أيديولوجية. واتفق مع هذا الفهم كثير من علماء السياسة الأميركيين. وتحتوي هذه العقيدة على مكون يرى أنها النموذج الوحيد للنجاح بشكل عام. مثلما يقول المؤرخ فرنسيس فيتزجرالد أن التاريخ هو خط ممتد، وأن الأميركيين يقفون عند نقطة النهاية من هذا الخط، ويمثلون كل البشرية.
وأن الأميركيين متفقون بشكل جماعي على المبادئ العامة التي يجب أن تحكم المجتمع الإنساني.
ولم يخرج الرئيس جورج دبليو بوش عن هذا المعنى، عندما قال في خطاب أمام قاعدة ويست بوينت العسكرية في يونيو عام 2002، أن القرن العشرين قد انتهى إلى نموذج وحيد باق للتقدم الإنساني، وهو نموذجنا.
إن الخط السياسي المعبر عن هذه المفاهيم، يتمثل في فكرة القومية الاقتصادية، الساعية إلى تأكيد مصالحها أولا في الخارج، وخفض التزاماتها الدولية، في الحالات التي لا تعود عليها بالمنفعة المباشرة، وهي أفكار لم يخرج عليها دونالد ترامب بشعاره أميركا أولا، وتصريحه الواضح بأننا لن نتدخل في أي نزاع في الخارج، ما لم يكن في صالح أمن أميركا، وأن يكون زمام السيطرة عليه في يد الولايات المتحدة.
وكما لخص الكاتب الأميركي ديفيد بروكس المفهوم الأساسي للقيم الأميركية بقوله: هو أن نهتم بأنفسنا أولا. وهو نفس ما عبر عنه ترامب في أول خطاب له عن السياسة الخارجية أثناء حملته الانتخابية بكلمة «أميركا أولا». وأن هذه الكلمة ستكون المفهوم الرئيسي لحكومتي.
وإذا كان ترامب قد تبنى سياسات مضادة للهجرات من الخارج، والتي وصفها بالهجرات غير الشرعية، في توجه مخالف لكون أميركا نشأت كأمة من المهاجرين، وأن الهجرات كانت تمثل إضافة لمجتمعاتها، فإن هذا التغير جاء نتيجة لدراسات وإحصاءات، تؤكد أن الهجرات ستؤدى إلى أن يتقلص حجم البيض بحلول منتصف القرن الواحد والعشرين، وهم الذين يمثلون الأغلبية، لتصبح الولايات المتحدة دولة تعددية من حيث الأجناس، وهو ما ظهر في جانب منه، من تكاثر حجم اللاتينيين، الذين سيصبحون الأغلبية في ولايات معينة هي كاليفورنيا، وأريزونا، ونيومكسيكو، وتكساس. وهو ما يؤثر على التركيبة التراثية والتاريخية للهوية الأميركية التقليدية.
عندئذ يضعف في العقل الأميركي الاعتقاد بمعنى العقيدة الأميركية، وهو أمر أشار إليه المؤرخ رسل ناي في دراسة عنوانها «الشعب المختار في تاريخ الفكر الأميركي»، بقوله لا توجد أمة في التاريخ الحديث سوى أميركا التي خضعت للاعتقاد بأنها مكلفة بمهمة ذات خصوصية في العالم.
ورغم هذا التجذر لمثل هذه المفاهيم في العقل الأميركي، فإن التحولات الكبرى في العالم، في السنوات الأخيرة، ومن بينها تراجع مقومات استمرارية القوة العظمى الوحيدة، وصعود الصين، وقوى أخرى إقليمية، بما يعني قرب أفول العصر الذي عرف منذ عام 1914 بالقرن الأميركي، فقد أوجد هذا كله داخل الولايات المتحدة أفكارا تبناها عدد كبير من المفكرين، والسياسيين، يرى ضرورة إحداث تغيير أساسي في المفاهيم الأميركية المتوارثة، وفي السياسات الخارجية، حتى لا تصطدم الولايات المتحدة، ومصالحها بقوى ستكون فعالة في التأثير على النظام العالمي، وعندئذ تخسر الولايات المتحدة من تبعات هذا الصدام. وأصحاب هذه الأفكار يمثلون الآن تيارا يحمل شعار التغيير في الفكر الأميركي، وفي السياسة الخارجية.

بقلم : عاطف الغمري
copy short url   نسخ
31/03/2017
3263