+ A
A -
تجربتي الأولى مع الموت كانت حين رحلت جارتنا العجوز بهدوء وهي نائمة دون أن أحظى بفرصة وداعها.. وحتى لو حظيت بهذه الفرصة لا أدري ماذا كنت سأقول لها؟ لم أفهم حينها كيف يختفي من نُحب ومن نعرف من خريطة حياتنا ويتحتم علينا بعد ذلك ان نتحدث عنهم دائما بصيغة الغائب.. غائب لن يعود أبدا إلا حين نستحضره في اذهاننا.. لم أبك ولم أحزن وإنما كنت أنظر بذهول إلى البقعة التي اعتدنا الجلوس فيها في حوشنا المترب مساء.. والباب الموارب حيث يتقرفص زوجها مستندا على عكازه منتظرا إياها كالعادة، ليرافقها إلى المنزل كالعادة، وصباحا ومساء كان يرافقها كظلها وهي تتسلى بالزيارات التي تختمها بزيارتنا، لم أره يوما ضجرا من الانتظار، ولم يحدث قط ان استعجلها لتغادر.. يقبل ما يقدم إليه من أكواب الشاي والقهوة أو العصير حسب مقدرة كل بيت بابتهاج، وكل ذلك وهو في الخارج وهي في الداخل... تحكي وتحكي ولا تنتهي الحكاية.. حكايات تأسر القلب، حتى لو كان قلب طفلة لم تبلغ سن الحلم بعد.. أستمع اليها بشغف وهي تحكي قصة حبها الأول والأخير في صراحة شديدة بعيدا عن رقابة الكبار. لا تهمل تفصيلة واحدة مهما بدت تافهة دون ان تذكرها... أحبته وهي على أعتاب المراهقة وهو على أعتاب الرجولة.. كانت في الخامسة عشرة وهو في الحادية والعشرين.. حين التقيا لأول مرة وأيضا أمام باب.. هي في الداخل وهو في الخارج، عامل بسيط لدى والدها التاجر.. يحضر طلبات ويتلقى أوامر لجلب طلبات اخرى، لم يكن وسيما ولا طموحا ولا يملك شيئا، ولكنها احبته، لم يجرؤ على التقدم لطلب يدها، وحين بلغت السابعة عشرة من عمرها أرغمت على الزواج من غريب وجده الأهل كفؤا لها، واختفى الآخر وانقطعت أخباره.. عاشت مع زوجها الذي فرض عليها لأكثر من عقدين دون ان تنجب، تولت تربية أولاده وبناته من زوجته الثانية.. والثالثة، وقامت بخدمة الجميع دون كلل، وبعد ان مات اكتشفت انها كانت مطلقة.. ولا يحق لها ان ترث، تنقلت في بيت أشقائها الذين عاملوها كخادمة قبل ان يظهر الحبيب القديم في الصورة، لم تتغير أحواله كثيرا، لم يصبح غنيا ولم يزدد وسامة، لكنه كان موظفا صغيرا وفي سبيله للتقاعد، ويملك منزلا وهبته له الحكومة يحتوي على أقل الاثاث، والأهم من هذا وذاك انه لم يتزوج قط.. وانه كان ينتظرها، لم تطلب إذن وموافقة الاشقاء والاب المقعد.. لقد كبرت على طلب الإذن.. أصبحت في الخامسة والاربعين.. ولم يعد في العمر متسع للمجاملات أو الخنوع، خمسة وعشرين عاما عاشتها معه مرت كالحلم، لم يعيرها بعدم قدرتها على الانجاب، ولم تعيره بضيق الحال وقلة الموارد، الحب الذي جمعهما أغناهما عن كل الكماليات وعن الأهل وعن خلفة الاولاد، ثم... اختفت... رحلت... ماتت...لا مزيد من الزيارات...لا مزيد من الحكايات... غضبت حين تزوج زوجها بعد وفاتها بشهر.. لكن أمي غضبت من غضبي.. لا تحظى الكثيرات بمثل هذا الحب هذه الايام.. قالت أمي.. عاشت وماتت وهي سعيدة... لقد غبطناها جميعا.. زواجه رد فعل للمحتضر.. انه كالمحكوم عليه بالإعدام يطلب وجبة دسمة وهو يعلم أنه لا يملك الوقت الكافي حتى لهضم هذه الوجبة... ومع ذلك... ومع ذلك.. ما زلت أذكر اسم تلك الجارة ولا أذكر اسم زوجها.
بقلم : وداد الكواري
copy short url   نسخ
29/03/2017
2118