+ A
A -
زرت الخرطوم مؤخرا في مهمة عمل صحفية، وكانت مصادفة طيبة للغاية أن أتواجد هناك خلال زيارة صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر، ما سمح لي بالوقوف على ردود فعل السودان، الرسمية والشعبية.
خلال الزيارة قابلت الفريق بكري حسن صالح، نائب الرئيس السوداني ورئيس الوزراء، وقد ثمن عاليا هذه الزيارة ونتائجها ومفاعيلها على الأرض، كما ثمن الدور الهام الذي تضطلع به صاحبة السمو في توفير فرص التعليم من خلال «مؤسسة التعليم فوق الجميع»، وتوفير فرص توظيف، وتمكين الشباب من خلال مؤسسة «صلتك» التي تسعى إلى تحسين أوضاع الشباب في العالم العربي، وتشجيع النشاطات الرامية إلى توفير فرص عمل واسعة النطاق، وتعزيز ريادة الأعمال، وإتاحة المجال أمام الشباب للوصول إلى رؤوس الأموال والأسواق، وللمشاركة والانخراط في التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
يتعامل السودانيون ببساطة وتلقائية، مهما كانت مناصبهم رفيعة وحساسة، وعندما تقابل أحد هؤلاء المسؤولين لا يختلف الوضع كثيرا، عما هو الحال مع أي مواطن سوداني عادي، فالتواضع سمة هذا الشعب الذي يتمتع بـ«نسيج اجتماعي» قل نظيره، لم تنل منه تعقيدات الظروف السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية، وهي كثيرة، وعلى الرغم من حل العديد من القضايا الشائكة والمعقدة، كما هو الحال بالنسبة للصراع الدامي الذي استنزف هذا البلد العربي وانتهى بانفصال الجنوب عام «2011»، بعد ست سنوات من الحكم الذاتي، وعقود من الحرب الأهلية بين المتمردين الجنوبيين والحكومات المتعاقبة في الخرطوم أوقعت أعدادا كبيرة من القتلى والجرحى، لكن الأمور لم تستقم على الإطلاق، إذ غرقت الدولة الوليدة في الجنوب بحالة من العنف، أدت إلى موجات من النازحين، أضافت عبئا ثقيلا على اقتصاد السودان الذي لم يتعافى بعد، دون أن ننسى تبعات قضية دارفور، التي أسهمت قطر في إيجاد حل لها عبر توقيع «وثيقة الدوحة للسلام» في يوليو2011، بعد أن أجيزت في مؤتمر أهل المصلحة بدارفور قبل ذلك التاريخ بنحو شهرين.
معرفتي بالسودان وأهله بدأت هنا في قطر، من خلال الاحتكاك مع مواطنين سودانيين يعملون في مختلف المجالات، وهم على قدر كبير من المهنية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأطباء والقانونيين، وللإنصاف في كل مهنة أخرى، وفي الخرطوم تأكد لي أن انطباعاتي عن هذا الشعب كانت في محلها: شعب كريم، مضياف، طيب الأخلاق والأعراق.
خصال السودانيين يعرفها الجميع، ولن أزيد على ما يعرفونه سوى أن هذا الشعب يستحق حياة أفضل، وفرصا أكبر، وهذه لا يمكن أن تقوم إلا عبر تعليم عالي الجودة، وتوفير فرص عمل جيدة، وهو ما كان في صلب زيارة صاحبة السمو.
زيارة سموها لم تتوقف عند مبادراتها الإنسانية، بل نالت حضارة السودان حظوة كبيرة من الزيارة، فكانت جولتها في المتحف القومي وأهرامات السودان محل اهتمام شعبي وإعلامي واسع النطاق تجاوز حدود السودان، ورسخ معرفة ثقافية بحضارة عريقة، وأكاد أجزم أن كثيرا من الأشخاص عرفوا أهرامات السودان من خلال هذه الزيارة، مما يجعلها بمثابة وثيقة ميلاد جديدة للأهرامات السودانية الضاربة في عمق التاريخ.
قبل الحديث عن نتائج هذه الزيارة لابد من التوقف أمام التصريحات التي أدلى بها السيد أحمد محمد هارون، والي ولاية شمال كردفان، خلال مداخلة مع محطة تليفزيون «S 24»، حيث توقف مليا أمام الاستقبال الشعبي الحار لصاحبة السمو، بالأهازيج المحلية والرقصات الشعبية، كما توقف طويلا أمام طبيعة شخصية صاحبة السمو التي تتسم بالتواضع والتواصل، وحرص سموها على مصافحة الأطفال والتقاط الصور التذكارية معهم، معتبرا أن هذه الزيارة سيكون لها شأنها على صعيد دفع المسيرة التنموية بشكل عام، وفي الواقع فإن هذا الاستقبال الحاشد له أسبابه الكثيرة، منها طبيعة الشعب السوداني، وتقديره العميق لكل من يمد له يد العون والمساعدة، وهل هناك ما هو أهم من توفير فرص التعليم والعمل؟.
لقد كان للكلمة التي ارتجلتها صاحبة السمو أمام الحشد الشعبي الضخم وقع عميق الأثر في نفوس السودانيين، سرت الكلمات منها مسرى النهر المتدفق بالعطاء والإنسانية، والتي قال عنها والي شمال كردفان إنها «أثارت دهشتنا جميعا بالخطاب الجماهيري الاستثنائي برصانتها وبالمشاعر الجياشة التي عبرت عنها»، كنت أتمنى كقطري فخور بما سمعته منها أن تنقل لكم هذه الكلمة مباشرة، وسأكتفي بكلمات منها:
«لقد سررت بوجودي معكم اليوم، كما سعدت بوجودي في عروس الرمال وعلى أرض الرجال، والنساء أيضاً..
معالي الوالي.. تكلمت بصدق وبصراحة عن العلاقات التاريخية بين قطر والسودان، وإنه والله لحديث يختصر كل الكلام الذي يمكن أن يقال عن أسباب تواجدنا هنا، وتواجد مؤسساتنا في السودان وفي الأبيض بالخصوص. إننا والله نشعر أن هذا واجبنا الإنساني تجاه أبناء هذا الشعب الكريم، الطيب، العريق».
في مدينة الأبيض زارت صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر، مؤسس ورئيس مجلس أمناء مؤسسة التعليم فوق الجميع، مركز التعليم البديل، والتقت سموها خلال الزيارة بالمعلمين والتلاميذ والأهالي في المركز، الذي ترعاه مؤسسة «التعليم فوق الجميع»، ضمن برنامج «علّم طفلا». والذي ينوي توفير التعليم لأكثر من 622 ألف طفل غير ملتحق بالمدارس بنهاية عام 2018.
كما زارت صاحبة السمو معرضا مخصصا للمستفيدين من مؤسسة «صلتك»، والتي أسستها وترأسها صاحبة السمو، ووقفت على منتجات المشاريع التنموية التي قام بها المستفيدون، واستمعت بشغف لقصص نجاح النساء المزارعات التي استطاعت برامج صلتك ان تصلهم في المناطق النائية، وتمكنهم من امتهان حرفة زراعة المحاصيل المشهورة بها السودان، مثل الصمغ العربي، والتي شهدت لها صاحبة السمو توقيع عدد من الاتفاقيات ذات الطابع الإنساني.. والتي تتضمن توفير وظائــف لـحوالي مليون شاب سوداني على مدى خمس سنوات، وتوفير الدعم للاجئين السوريين.
سوف يبقى مشهد الاستقبال الحار لصاحبة السمو عالقا في الأذهان طويلا، كان لقاء القلوب بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، قلوب قطر التي تخفق مع هموم الأشقاء، وقلوب السودانيين التي خفقت بقوة مرحبة بزيارة الخير والعطاء النبيل.
لقد أدركت صاحبة السمو مبكرا جدا أن التعليم هو وسيلة التقدم والابتكار، وهو النهضة الحقيقية للشعوب، وجميعنا نذكر، بالكثير من العرفان والتقدير والامتنان بداية هذا الفكر التنويري العظيم هنا في قطر عبر مساهمتها بإنشاء المدينة التعليمية التي تضم في جنباتها أعرق الجامعات وأكثرها تميزا، لكن الأمور لم تقف عند حدود الوطن، والنظرة الإنسانية لصاحبة السمو كانت أكثر سموا، لتنشئ مؤسسة «التعليم فوق الجميع»، التي تستهدف «10» ملايين طفل بمناطق النزاع، من أصل «60» مليون طفل غير ملتحق بالتعليم يتوزعون في العديد من دول العالم، لكن هذه ليست كل القصة، فالمشهد لن يكتمل بالتعليم وحده، فكانت مؤسسة صلتك التي تعمل على توسيع الفرص الاقتصادية أمام الشباب من خلال المبادرات والبرامج الرامية إلى تعزيز فرص التوظيف، وريادة المشاريع في سائر أنحاء العالم العربي، وهناك حالياً مشاريع قائمة في «16» دولة هي الجزائر وجزر القمر ومصر والعراق والأردن ولبنان والمغرب وسلطنة عُمان وفلسطين وقطر والسعودية والصومال والسودان وسوريا وتونس واليمن، وكذلك بعض المشاريع التي تغطي كامل المنطقة، مع خطط طموحة لتوسيع التغطية الجغرافية.
هذا الدور الفعال والنشط كان محل تقدير عالمي، ففي 2003 تم تعيين سموها المبعوث الخاص للتعليم الأساسي والعالي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، وفي 2005 دعيت صاحبة السمو لتكون عنصراً من المجموعة رفيعة المستوى لتحالف الأمم المتحدة للحضارات، وهي مجموعة أطلقها الأمين العام للأمم المتحدة لتعزيز حوار الثقافات، كما تم تعيين سموها في وقت لاحق سفيراً لتحالف الأمم المتحدة للحضارات.
وفي 2010 أصبحت سموها عضواً بمجموعة الأمم المتحدة الاستشارية حول الأهداف الإنمائية للألفية التي تولي اهتماماً خاصاً للهدف الثاني الخاص بتعميم التعليم الأساسي. وفي عام 2012 تم تعيين سموها عضواً باللجنة التوجيهية لمبادرة الأمين العام للأمم المتحدة التعليم أولاً. وفي عام 2016 عينت صاحبة السمو من قبل الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون كعضو في مجموعة الأمم المتحدة المدافعة عن أهداف التنمية المستدامة.
أعود إلى السودان، وما حققته المؤسسات الإنسانية التي ترأسها صاحبة السمو: مؤسستا «التعليم فوق الجميع» و«صلتك»، من إنجازات، وما تخطط له من مشاريع، هي ليست مجرد أرقام يمكن المرور عندها سريعا، لا.. الأمر ليس كذلك على الإطلاق، فعندما نتحدث عن توفير وظائف لـ حوالي مليون شاب سوداني في 2021، فنحن أمام رقم هائل ستكون له الكثير من الآثار الإيجابية على مستقبل التنمية في السودان، وعندما نتحدث عن تمكين 622 ألف طفل غير ملتحق بالمدارس بنهاية عام 2018 من التعلم، وعن توفير الدعم للاجئين السوريين، وعن نموذج لحلول بديلة لمعالجة الإرهاب وتبني الشباب العائدين من انخداعهم بالأفكار المتطرفة، فلنا أن نتخيل حجم التحرك الذي قادته صاحبة السمو من أجل مساعدة هذا البلد العربي الشقيق، ونحن هنا أمام إنجاز غير مسبوق على الإطلاق.
نحن هنا أمام «رؤية» فذة قلما يجود بها الزمان، رؤية إنسانية من نوع فريد هدفها الارتقاء بالإنسان العربي، لأن الارتقاء به هو ارتقاء بالأوطان، وهو السبيل الحقيقي للتنمية القائمة على أسس راسخة.
عندما تابعت مشاهد زيارة صاحبة السمو، ونتائجها وحجم الترحاب، وما سمعته من المسؤولين السودانيين، الذين التقيتهم، عن زيارة سموها، احترت من أين أبدأ هذا المقال، فأنا أمام شخصية استثنائية وإنجازات استثنائية تحمل شعلة النور لأجيال وشباب أنارت لهم على ارض الوطن قطر ، كما حملت هموم المرأة المسلمة العربية وشباب الوطن العربي لتأخذ بيدهم إلى حياة كريمة ومجتمعات آمنة.
وبكلماتها أضع نقطة نهاية المقال:
«ونحن إن شاء الله نعدكم أن هذه المشاريع لن تتوقف، بل ستستمر طالما أن مسيرة التنمية في السودان مستمرة، وفقنا الله معكم.. لما فيه خير لنا ولكم في ديننا ودنيانا..وشكرا لكم».
بقلم : عبدالرحمن القحطاني
copy short url   نسخ
21/03/2017
8269