+ A
A -
سيبقى خطاب الرئيس الأميركي ترامب أمام الكونغرس في 28 فبراير 2017، محل اهتمام من المختصين بصناعة السياسة في أميركا، نظرا لأن هذا الخطاب الافتتاحي لعهد أي من الرؤساء، يكون بمثابة أول إعلان بتحديد رؤية الرئيس لبلده أميركا، ولاتجاهات تفكيره بالنسبة للسياسات الداخلية والخارجية. ولأنه يعد أول خطاب يخرج عن طابع الارتجال الخطابي الذي يسيطر على كلمات الرؤساء في حملاتهم الانتخابية، ثم على لهجة الرئيس بعد فوزه، وقبل مرحلة التواؤم السياسي مع طبيعة العمل في البيت الأبيض.
بعض الذين أخضعوا الخطاب للتحليل الدقيق، وصفوه بأنه يمثل رفضا للقيادات السياسية التقليدية، وأنه مضاد لمفهوم المؤسسة ESTABLISHMENT، وإن كان قد استوقفهم، قبل أي معنى آخر في الخطاب، الجملة التي قال فيها ترامب «إننا اليوم لا ننقل السلطة من حكومة لأخرى، أو من حزب لآخر، لكننا ننقلها من واشنطن، لنعيدها إليكم.. أنتم الشعب».
وكانت النظرة إلى هذه العبارات، أنها استكمال للخطاب السياسي لترامب، منذ بدء حملته الانتخابية، الذي اتسم بالهجوم المتواصل على النخبة التي احتكرت لسنوات طويلة، التأثير على الفكر، والتوجهات السياسية للدولة، مقترنا برفض معلن من الذين أعطوه أصواتهم، لهذه النخبة تحديدا.
هذه النظرة أعادت إلى ذاكرة المحللين وجهة نظر عمرها خمسون عاما، سبق أن أحدثت عند الجهر بها، ما وصف وقتها بانفجار فكرى وثقافي، أثار جدلا ملتهبا شارك فيه كثير من المؤرخين، وعلماء الاجتماع، والسياسة، في الولايات المتحدة، والذين انقسموا إلى تيارين أحدهما مقتنع بما عرضته وجهة النظر هذه، والآخر رافض لها تماما.
وجهة النظر المشار إليها، أعلنها عالم الاجتماع الأميركي تشارلز رايت ميلز في كتاب عنوانه نخبة القوة POWER ELITE، صادر عام 1956. ونبه فيه ميلز إلى امتزاج مصالح ثلاث قوى تشكل معا النخبة المتربعة على قمة المجتمع، وعلى الحكومة. وهذه القوى تضم قيادات المؤسسة العسكرية، والكيانات الاقتصادية، وعناصر من السياسيين، والتي تحول المواطن العادي في ظل تكتلها، إلى طرف بلا قوة نسبيا، وخاضعا لهذه الكيانات الثلاثة، وأن هذه النخبة القوية تشغل المواقع المسيطرة في الدولة، وفي المؤسسات العسكرية، والاقتصادية، والسياسية، وتكون لقراراتها نتائج هائلة، ليس فقط للمواطنين الأميركيين، بل أيضا لكل العالم، خاصة بعد أن اتسعت اهتماماتها السياسية من الداخل، إلى المجال العالمي.
ويتطرق ميلز إلى إيضاح القوة الهائلة للمجموعة العسكرية في نخبة القوة، التي اكتسبت نفوذا هائلا في السياسات الخارجية للولايات المتحدة، وبحيث يصعب التمييز بين الدولة والمؤسسة العسكرية. وهذه المؤسسة هي التي كان الرئيس إيزنهاور في خطاب موجه إلى الشعب الأميركي عام 1962، قد حذره منها، والتي عرفها باسم المؤسسة الصناعية العسكرية
MILITARY INDUSTRIAL COMPLEX. وهي عبارة عن تحالف بين الكيانات المنتجة للصناعات العسكرية، وبين وزارة الدفاع «البنتاجون».
يقول ميلز إن هذا الوضع تطور إلى أن أصبح الاقتصاد الأميركي اقتصاد حرب، بداية من سنوات الحرب العالمية الثانية، إلى المراحل التي جاءت بعدها. واقتصاد الحرب أصبح مصطلحا يعبر عن احتياج المؤسسة الصناعية العسكرية، إلى معارك وحروب خارجية، تحافظ على ازدهار صناعات السلاح بمختلف أنواعه، والتي صارت متداخلة مع الاقتصاد المدني. ولهذا يتشارك العسكريون، ونخبة رجال الأعمال في التخطيط للحروب.
إن ما بعث من جديد هذه الرؤية التي تعود إلى خمسين عاما مضت، لتوضع تحت نظر المحللين، من بعد خطاب ترامب أمام الكونجرس، أمران، أولهما كلمته التي تحدث فيها عن إعادة السلطة من المؤسسات التقليدية إلى المواطن الأميركي، والثاني ما كان وراء وصول ترامب غير المتوقع إلى الرئاسة من حركة تمرد جماهيرية مؤيدة لترامب، ظلت طوال السباق الانتخابي تعبر عن نفسها في استطلاعات الرأي على مستوى جميع الولايات، من رفضها للنخبة، وسيطرتها على صناعة القرار السياسي، بطريقة لا تراعي رغبات المواطن الأميركي، لكنها متأثرة بقوى هائلة تشغل قمة المشهد السياسي.
ولم تكن رؤية ميلز عن نخبة القوة، أو العبارات ذات الدلالة في خطاب ترامب أمام الكونجرس، منعزلة عن واقع موجود داخل الولايات المتحدة، سبق أن أوضح الرأي العام استياءه منه، في استطلاعات للرأي، وفي دراسات لمراكز بحوث متخصصة، من ثم جاء تعبير ترامب عن هذا الواقع، وبالصورة التي جعلت بعض الصحف تصف مجيء ترامب للسلطة، بأنه مدفوع بتمرد جماهيري كان كامنا لسنوات طويلة.

بقلم : عاطف الغمري
copy short url   نسخ
17/03/2017
4414