+ A
A -
لم يكن تحليل هجوم الرئيس الجديد ترامب على الإعلام الأميركي، بسبب تحيزه ضده أثناء المعركة الانتخابية، ونشره معلومات كاذبة، راجعا إلى هذه الناحية فحسب، بل إن هذا الهجوم قد فتح الباب للتشكيك في معالجة الإعلام بشكل عام لقضايا تخص دولا أخرى، اعتاد الإعلام أن ينتقدها بقسوة، حتى لو التزمت الإدارة الأميركية الصمت تجاه هذا التحيز الواضح.
وفيما يتعلق بغضب ترامب من الإعلام - بصحفه وقنواته التليفزيونية- فقد وصف الإعلام بأنه يشن حربا ضده، وقدم نماذج عديدة عن المعلومات الزائفة التي نشرت عنه، ووصف الصحفيين بأنهم من أكثر المخادعين على وجه الأرض.
وبالإضافة إلى ما نشره الإعلام عن فضائح نسائية لترامب، فقد توسع الإعلام في الإكثار من التوقعات عن أن ترامب سيتلقى الهزيمة أمام هيلاري كلينتون. وظلت هذه التوقعات تمثل جزءا أساسيا من التغطية الإخبارية، في إلحاح واضح، أقنع الناس داخل أميركا وخارجها، بأن هيلاري كلينتون ستكون رئيس أميركا القادم. وهو ما كشف عن الحرفية العالية للإعلام، في صناعة معلومات يقصد بها الإيحاء الذي يؤثر على تفكير من يتابعها.
والحقيقة أن هناك تداخلا مؤسسيا بين الإعلام والدولة في أميركا، وهو ما كشف عنه التحيز الشديد ضد ترامب، نتيجة التداخل بين الإعلام والنخبة، التي كانت الجهة الأولى المستهدفة من هجوم ترامب، أثناء حملته الانتخابية، والتي تعد مركز النفوذ المؤثر على التوجهات السياسية للدولة، بدءا من الرئيس في البيت الأبيض.
والنخبة - خاصة الخبراء في مراكز البحوث السياسية- هي جزء أساسي من تركيبة الإعلام، ووجوده، بصحفه المقروءة، وقنواته المرئية. ويشغل قطاع كبير من النخبة مواقع هامة في الصحف، وتلجأ إليهم الصحف لاستطلاع آرائهم وطلب تحليلاتهم للأحداث السياسية التي تشغل الرأي العام، كما أن القنوات التليفزيونية تستعين بهم في برامج الحوارات، باعتبارهم مرجعيات متخصصة في الشؤون السياسية.
من ثم اعتبرت وسائل الإعلام، هجوم ترامب الشديد على النخبة، ورفضه لها، على أنه يمسها بصورة مباشرة، وبدت في موقفها تجاه كل من ترامب وهيلارى، وكأنها تدافع عن نفسها قبل أن تكون في موقف الدفاع عمن اختصهم ترامب بهجومه.
وكما يقول ريتشارد كيرتس، الذي عمل لأكثر من ثلاثين عاما في وزارة الخارجية، وفى وكالة الإعلام الأميركية، وذلك في كتابه «صورة متغيرة» A CHANGING IMAGE إن الإعلام المقروء، لا يزال المصدر الرئيسي للمعلومات بالنسبة لقادة الولايات المتحدة، وللذين يصنعون توجهات الرأي العام. وأن الحكومة الأميركية كانت دائما قادرة على حشد التأييد في المقالات الافتتاحية، لمواقفها من مختلف القضايا. كما أن الصحافة الأميركية كانت - تاريخيا- مرآة تعكس المجتمع في أميركا. ثم دخل التليفزيون ليصبح الوسيلة الأولى والأكثر تأثيرا في تشكيل الرأي العام، تجاه القضايا الخارجية. ففي داخل التليفزيون، توجد غرفة مراقبة، أي أن السياسة موجودة في الإعلام وليست غائبة عنه. ولهذا لوحظ أن الصحف الكبرى عادة ما تتخذ مواقف تجاه دول، لا تريد الحكومة أن تظهر بأنها هي صاحبة هذه المواقف.
بل إن التوجهات السياسية لا تقتصر فقط على الإعلام - صحفا وقنوات تليفزيونية- بل يمتد تأثيرها إلى مؤسسات مجتمع مدني، وأبرزها منظمة هيومان رايتس ووتش، التي تعكس بصورة حادة، مواقف للحكومة، لا تريد أن تنسبها لنفسها. وقد كشفت عن ذلك دراسة مطولة للكاتب جاري ليش، ونشرتها مطبوعة «كونتر بانش» بعنوان «تحيز هيومان رايتس ووتش»، قال فيها إن تقارير هذه المنظمة خلال سنوات طويلة قد أظهرت بصورة واضحة، تحيزا تجاه بعض الدول. وأنها تضمنت أكاذيب ضد دول أجنبية. وقد حدثت في فترة من الفترات أن نائب رئيس هذه المنظمة، قد نقل منها للعمل مسؤولا بوزارة الخارجية، أي أن الانفصال بين الدولة ومثل هذه المنظمات، ليس مؤكدا دائما. ومن المعروف أن نطاق المعلومات المتداولة يعتبر مغلقا، فهو في يد النخبة التي تزود الرأي العام، بمعلومات بعضها صحيح وبعضها غير صحيح.
ويكمل هذا الجانب ما سبق أن أثير في صحف كبرى، وفى جلسات الكونجرس، من أن بعض مراكز البحوث، التي تعبر عن النخبة، والتي هاجمها ترامب، تتلقى تمويلا من جهات متعددة، بعضها من الكيانات الاقتصادية الكبرى، في الولايات المتحدة، وبعضها من دول أجنبية، مقابل رفع التقارير السياسية لهذه المراكز، في اتجاه يعكس مطالب الجهة الممولة، قبل أن تلتزم بالحيادية.
هذه النظرة للإعلام الأميركي، والتي اهتمت بتغطية قضايا تخص دولا أجنبية، لم تكن مطروحة على هذا النحو من الاهتمام، سوى في نطاق محدود، إلا بعد أن كشف الرئيس ترامب نفسه، عن مواقف للإعلام الأميركي تأتي متحيزة، وبعيدة عن الموضوعية، والحيادية.

بقلم : عاطف الغمري
copy short url   نسخ
10/03/2017
4292