+ A
A -
تعيش بعض الشعوب العربية في قلب الخوف، تشعر أنها تقترب من حافة هاوية سحيقة تهدد ما بقي من استقراها، بل ربما وجود دولها، بمخاطر مصيرية. صحيح أن هذه الشعوب انتفضت ضد أنظمتها الديكتاتورية، لكن بعضها أضاع الطريق إلى الدولة والبناء وتعزيز الوحدة الوطنية، صارت الحرية التي أبصرت النور للمرة الأولى منذ عقود طويلة بعد كسر قيود الظلمة التي فرضتها التوتاليتاريات الأمنية العروبية، سبباً للفوضى والاجتهاد والاختلاف وتدمير الذات والبنى التحتية والفوقية. مناخ الحروب الأهلية يخيم على المنطقة كلها، وريح السموم تهب عاتية، والطائفية أنجبت المذهبية التي بدورها ولدت الفتنة.
ومن لم تطارده آلة تعذيب الأجهزة والأنظمة ولم تدوسه الجزم العسكرية، لاحقته شرور التكفير والتصنيف، وصارت مدن الشرق وحاضراته مسرحاً لصدامات طائفية ومذهبية تدمر تاريخها وذاكرتها وتفتك بأبنائها على الهوية وتهدم الدول وتفتح الأبواب للتدخل الأجنبي وتمنح الأعداء موسم أعياد لا تنتهي، وما نعيشه أشبه بالسقوط في بئر لا قاع لها.
ما يميز هذا الشرق الكبير تنوعه الديني والعرقي الذي جعله فريداً، لكن يا للأسف هذا التنوع صار نقمة بدلاً من أن يكون نعمة. وهذا هو الواقع الحالي لشعوب هذا المشرق؛ حيث صار التنازع والافتراق بين الطوائف والأديان والأعراق التي تعايشت لآلاف السنين، واقعاً ملموساً لا يحتاج إلى برهان. فهل نحن في طريق العودة إلى دويلات الطوائف؟ هل نعيش زمن الفوضى الخلاقة الذي حدثتنا عنه كوندوليزا رايس؟ هل انتهى مفعول سايكس– بيكو ونذهب نحو تجزئة المجزأ بدل توحيد الموحد؟
الأكيد أن سوريا التي كنا نعرفها ذهبت إلى غير رجعة، العراق يغرق في مستنقع الطائفية والتشرذم، الثروة العربية تبدد بلا أمل، مصر هرم كبير مقلوب رأساً على عقب، قمته في التراب وقاعدته في الهواء، السودان في خبر كان.. كان سوداناً واحداً صار سودانين وربما يصير أكثر في قادم الأيام، ليبيا انتقلت من جحيم القائد إلى جحيم الفوضى وعدم وجود أساس دولة أو قائد لها، اليمن يجر خيباته، أما فلسطين فتندثر بعالم النسيان والخيانة.
بات من الطبيعي أن تسأل الشعوب أين ستقودنا هذه الانقلابات الثورية وهذا الخراب الذي لا يتوقف، أليس من الممكن أن تؤدي بالمجتمعات إلى أوضاع اكثر سوءاً من تلك التي ثارت عليها وانتفضت عليها؟ أليس ثمة احتمال أو حتى احتمالات أن تقودنا هذه الفوضى إلى اتجاهات مدمرة أو مجهولة؟ ألا يتربص متطرفون من كل المشارب الفكرية للسيطرة على مجتمعات ما بعد الانتفاضات وإقحامها في عصور مظلمة ومكفهرة؟
التخوفات تلك، وربما غيرها كثير، مشروعةٌ، ليست ثمة ضمانات مسبقة على المستقبل، لكن في المفاضلة بين التغيير والحياة التي بعثت من جديد في نفوس الشعوب وبين الموت البطيء الذي فرضته الأنظمة التوتاليتارية بتصحيرها دولها بعد الأرض يجب الانحياز إلى التغيير. إنها المرحلة التي لابد لمجتمعاتنا من أن تمر فيها حتى تنتقل إلى مرحلة النضج والنهوض والبناء الصحي، إذا بقينا نخاف من القيام بهذه النقلة بسبب أكلافها التي لا مناص منها، معنى ذلك أننا سوف نبقى نغوص في مستنقعاتنا إلى الأبد.
التغيير مطلوب، على رغم كل ما فيه من اختلالات، ومغامرات، ومخاطرات، وهو انحياز إلى إرادة المستقبل ضد الماضي المحنط، وعلى الحاضر المستنقعي أيضاً، انحياز إلى الحرية والكرامة ضد الاستبداد والذل، وإسقاط أنظمة الاستبداد هو الشوط الأسهل، على رغم صعوبته، وأحياناً دمويته وأكلافه الهائلة، في مسيرة بناء مجتمعات ديمقراطية وصحية وفاعلة. الشوط الأكثر صعوبة هو عملية التأسيس والبناء بعد عقود الخراب الطويل. الانحياز هنا يعني الاصطفاف مع التغيير ضد رتابة التكلس وجمود الأوضاع الآسنة. لكن إلى أين سيأخذنا التغيير وكيف؟ وفي أي اتجاه سيشق مسيرته؟.. كلها أسئلة معلقة برسم كيف سيعمل المعنيون بالتغيير والذين لهم مصلحة أكيدة فيه، على تحويل إلى تغيير إيجابي مهما كانت التضحيات لأن مستقبل الشعوب يستحق ذلك.
بقلم : أمين قمورية
copy short url   نسخ
08/03/2017
4641