+ A
A -
تحمل كلمة «علمانية» سمعة سيئة لدى كثيرين. ما أن يسمعها بعضهم تتردد من فوق منبر أو تُذكر في مناسبة إلا وينصرف ذهنهم بالتحديد إلى علاقة الدين بالسياسة. وما ينتابهم من حساسية حيال الكلمة مصدره ما تربوا عليه من معان سلبية التصقت بها طويلاً. فالعلمانية بحسب الخطاب الشائع رؤية كُفرية غربية استعمارية بغيضة تُنكر الشريعة وتدعو لقمع رسالة الدين. والحق أن بعضاً من العلمانية فيه شيء من ذلك. فهناك فرع ثوري جامح في الفكر العلماني يكره الدين بالجملة ويدعو إلى نزعه من الحياة كما فعل ستالين في الاتحاد السوفياتي.
لكن العلمانية أطياف كثيرة واتجاهات عديدة تتفق على نقد الطرق الجامدة للتدين لكنها لا تنكر الدين أو تعترض على وجوده في الحياة الخاصة بل وحتى العامة، لكنها تصر على التصدي للغلو فيه. ولن يتأتى ذلك إلا بتنظيم علاقته بالحياة عامةً وبالسياسة خاصةً حتى لا تتدخل الأخيرة في شؤونه فتستغله لمصلحتها أو يتدخل هو في عالمها فتختلط صرامته بمناوراتها وقدسيته بدنسها.
والعلمانية فكرة تنظيمية مرنة لا تنصرف فقط إلى علاقة الدين بالسياسة وإنما يمكن أن تنسحب إلى تنظيم علاقة السياسة بأشياء كثيرة، وهو ما يسمح بظهور علمانيات جديدة تواكب الحاجة إلى إعادة النظر في علاقات كثيرة باتت عشوائية ومرتبكة. وسواء كانت العلمانية مشتقة من «العلم» أو من «العالم»، فالإثنان معاً، العلم والعالم، لا يقبلان الفوضى وترك الأمور تمضي بلا هدى. فالعلم له قواعد ينبغي احترامها والعالم فيه تنوع ينبغي تقبله. والعلمانيات الجديدة المطلوب التفكير فيها في منطقتنا تتجاوز البحث في إضطراب علاقة الدين بالسياسة للبحث في علاقة مجالات كثيرة أخرى مضطربة كذلك بالسياسة.
خذ مثلاً أحاديث أهل الفن المتكاثرة في السياسة إذ يتمتع بعضهم وهو يفتي فيها بما لا يتمتع به المحللون وأهل الإختصاص مع إن حديث أكثرهم تافه وسطحي بل وسمج. ومع هذا تُفرد لهم صفحات في الجرائد وفقرات في التليفزيونات. ولم يكن هذا ليحدث إلا بأمر السياسة. وهو ما يدعو إلى علمانية جديدة تفصل الفن عن السياسة. صحيح أن بينهما مناطق تماس لكن الإثنان لو اختلطا فلن ينتجا إلا سياسة سندها هش من مشاهير مترفين، وفن ضال لا يعرف أن رسالته تمثيل المحكوم وليس التبرير للحاكم.
علمانية أخرى مطلوبة لتنظيم علاقة الرياضة بالسياسة. فليس من الحكمة مثلاً أن يُفسر الفوز ببطولة على أنه انتصاراً لنظام حكم ودليلاً على شرعيته والتفاف الناس حوله. كما لا يمكن أن تحسب هزيمة رياضية على أنها هزيمة للنظام. فالرياضة، مثل الفن وأي نشاط آخر، تتماس مع السياسة لكن الفصل بينهما يبقى مهماً حتى يتحرر الرياضي من الخوف والنفاق وحتى لا يتحمل السياسي اللوم على خسائر لا يد له فيها. ولهذا، وعلى نفس شعار لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، اللهم إلا مناطق التماس الضرورية مثل احترام السياسة للقيم الأخلاقية للدين، فإنه لا رياضة في السياسة ولا سياسة في الرياضة أو للدقة لا تسييس للرياضة. وكذلك الحال مع الفن.
ولا تسييس أيضاً للتجارة أو للإدارة. ففصل الثروة عن السلطة والتجارة عن السياسة علمانية أخرى لا تقل أهمية عن باقي العلمانيات. فالمال متى أمسك بالسياسة إلا ووجه آلتها لخدمة الأغنياء. والسياسة متى استسلمت للمال فقدت وظيفتها كوسيلة لإدارة المجال العام لمصلحة المجموع. وبالمثل يجب الإصرار على علمانية الإدارة. فالجهاز الإداري ليس غنيمة للسياسيين وإنما يحتاج أن يبتعد بقدر معقول عنهم لكي يعمل بكفاءة ونزاهة. علمنة الإدارة تستطيع مثلاً حماية المجتمع من السياسة لو أرادت قمع معارض أو تهميش طائفة أو اضطهاد رأي.
لقد وقع خلط كبير بين السياسة ومجالات عديدة أخرى غير الدين. ولهذا تزداد الحاجة إلى علمانيات جديدة ترد السياسة إلى أصلها كنشاط يدير ولا يهيمن، ينظم ولا يحتكر. نشاط يعمل فيه السياسي من أجل الخير العام وليس للاستيلاء على الخير العام فيشجع الفن دون أن يستحوذ عليه، ويعتني بالرياضة دون أن يوظفها لتمجيده. نشاط يحمي به حرية التجارة دون أن يتحول هو إلى تاجر، ويتأكد من خلاله من كفاءة الإدارة وليس تطويعها للتخديم على رغباته. مطلوب بشدة التفكير في تلك العلمانيات الجديدة لأن العلمانية ليست إجابة نهائية وإنما هي فكرة تتغير وتتجدد خاصةً وأن السياسة لم تعد تتحمل كل من خلطوا أنفسهم بها من قبل ولا هي تتحمل من يحاولون أن يخلطوا أنفسهم بها الآن.

بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
13/02/2017
4500