+ A
A -
في بيت معزول، محاط بحديقة صغيرة، استقر المقام أخيراً بالشاعر الإنجليزي الخالد: جون ميلتون، فاقداً للبصر، يُقاد، ويقرأ له، ويملي ما يود كتابته؛ كهلا، منهكا، لكنه محافظ حتى آخر رمق على اتقاد بصيرته؛ إذ أنه، تحت كل هذا الظروف، أيقظ المقاتل فيه، إلى جانب الشاعر، وكتب لإنجلترا ما تستطيع الفخر به إلى الأبد، كتب ملحمة: الفردوس المفقود، أعظم قصيدة في اللغة الإنجليزية على الإطلاق، تلك القصيدة الطويلة جدا التي كتبها في عشرة كتب، ثم طبعت لاحقا في اثني عشر كتابا. هذه الملحمة التي أنجزها في الظروف السابقة، لم تكن وليدة اللحظة بشكل كامل، إنما كان قد وضع مخططات أولية لها منذ عام 1640، إذ أنه أعد، كبداية، تخطيطا لموضوعات عامة كان يشعر أنه من الممكن أن تتطور إلى دراما طويلة، أو بمجهود أكبر، إلى ملحمة. من بين تلك الموضوعات (خطيئة آدم)، وأساطير الملك آرثر، بطل المائدة المستديرة الذي من المفترض أنه عاش في القرن السادس قبل الميلاد. استغرق وقتا طويلا مترددا. أولا: حول اللغة التي يجب أن يكتب به هذا العمل الذي قرر أن يكون خالدا له ولأمته، هل سيكتبها باللغة اللاتينية أم سيكتبها باللغة الإنجليزية، وثانيا: هل سيكتبها على شكل مأساة إغريقية، أم رواية دينية.. قبل أن يستقر أخيرا على نظمها شعرا، على شكل ملحمة، وباللغة الإنجليزية. انطلق في الكتابة بشكل متقطع في البداية، بعض الأبيات التي أدخلت إلى القصيدة لاحقا، ثم بشكل يومي، وعندما فقد بصره تماما في عام 1658 أصابه ما يشبه الحمى الشعرية، للدرجة التي كان ينادي عندما يشعر أنه سينفجر شعرا بأنه يحتاج إلى من يحلبه. يقول النقاد عن هذه القصيدة إنه لا يوجد عمل أدبي، وعلى الأخص قصيدة، نظمت بمثل هذا الجد والكد والشجاعة والجراءة. نُقل ميلتون الذي كان يمثل وفق شعوره الخاص، ومن المحتمل وفق الشعور الجمعي، لإنجلترا ما يمثله هوميروس للإغريق. نُقل، هربا به من الطاعون الذي اجتاح لندن عام 1665، إلى كالفونت سانت، حيث استقر نهائيا لإكمال هذا المشروع الجبار، وأكمله، أنهى قصيدته أخيرا، في 10558 بيتا عن الخطيئة الأولى، تلك التي احتاجت إلى عشرة كتب لطباعتها. لكنه لم يجد من يقدم على نشرها، تحت ذريعة أن التوجه القرائي لم يعد منسجما مع مواضيع الملاحم الشعرية، للدرجة التي اضطر معها شاعر إنجلترا العظيم إلى أن يبيع حقوقه في الفردوس المفقود «القصيدة بالطبع»، إلى الناشر صمويل سيمونز مقابل خمسة جنيهات فقط. وهذا ما حدث، ونشرت القصيدة لأول مرة في أغسطس 1667، وبيع منها في أول عامين 1300 نسخة، ثم في الأحد عشر عاما التالية بيع منها 3000 نسخة..
الموضوع الأساسي لهذه القصيدة «الخطيئة الأولى» لكن يتخللها، في مقاطع وصفت بأنها الغاية في السمو والرفعة، مشاهد للجنة والنار وأوصاف للطبيعة، والكثير من الواقعية التي أضفيت على شخصية آدم وحواء..
تبدأ القصيدة في جهنم، حيث الشطيان المتخيل على هيئة طائر ضخم الجسم، يعض جنوده الهابطين إلى الأرض:«لم يضع كل شيء، فإن الإرادة التي لا تقهر، وتدبر للأخذ بالثأر، والكراهية التي لا يخبو أوارها إلى أبدا، والشجاعة التي لا تخضع ولا تستسلم، إما أن تنثني متوسلة الرحمة، على ركبتين ضارعتين، أو يبقى العقل والروح ولا سبيل إلى قهرهما»..
وتستمر القصيدة، مفسرة في حوارات مطولة، مخالفة الإنسان الأول لأمر ربه «الخطيئة الأولى»، ومعبرة بشكل لا يقبل الشك عن عبقرية شعرية هائلة للشاعر الإنجليزي العظيم: جون ميلتون 9 ديسمبر 1608-8 نوفمبر 1674.
بقلم : ضيف فهد
copy short url   نسخ
12/02/2017
5537