+ A
A -
- هذا ليس طائرا بريا، الأرجح أنه أحد طيور البحر..
وبناء على (الأرجح) هذه التي أطلقها أكثر رجال القرية حكمة في تسمية الطيور- علما بأنه لم يسبق له مشاهدة طائر بحر في حياته- بات اسم ذلك الطائر عند جميع من في القرية: الطائر الذي على الأرجح أحد طيور البحر..

عندما جاء للسنة الثانية على التوالي، ثم للسنة الثالثة، بات انتظار عودته في السنوات التالية أمرا محسوما..
في منتصف الصيف تقريبا، ومع استيقاظ القرية في كل يوم بدءا من هذا التوقيت، أصبح لديها عادة النظر بأكملها جهة الأشجار في الجهة المقابلة من الوادي:
تتفقد الأغصان، تتفحص فروع الأشجار فيما لو كان يحط على أي منها طائر بعنق وساقين طويلة، ولون لم يسبق لأحد أن شاهد في بياضه، ثم تأخذ نظرة فاحصة للتأكد مما إذا كان يحلق في سماء القرية طائر له هذه المواصفات، وعندما لا تلوح أي بشائر لظهوره، تنصرف إلى بقية شؤون يومها، بخيبة أمل مكتومة، وقلق صامت.
غير أن هذا التوتر المتزايد الناجم عن الانتظار، والذي يظهر كل عام عند اقتراب موعد عودة الطائر، لا يلبث أن ينفرج عن غبطة واضحة، وسرور طافح، ما أن يشيع خبر ظهور هذا الغريب بعد ذلك بيوم أو يومين.
أنا في ذلك الوقت، وحتى الآن، لم اهتد لتفسير سر هذا الابتهاج، غير أنني أتذكر الآن أن بهجتي كانت لا تقل أبدا عن أي من سكان تلك القرية، وربما كانت تفوق بهجتهم مجتمعين؛ كان منظر الأشجار في الجهة المقابلة من الوادي يصبح أفضل بمجرد وصول الطائر، ويلف القرية، جو من النداوة كما لو أنها ستمطر، وتصبح كل الطيور في نظر الجميع لا معنى لها، وحتى نحن الصغار نكف عن محاولة اصطيادها، يصيبنا ما يشبه الرهبة من أن نرتكب أي تصرف أحمق يجعل هذا الغريب يشعر بالتوجس، تستقر في أذهاننا فكرة التميز، ونعبر- دون كلمات- عن تقديرنا الكبير لدوافع هذا الطائر في اختيار قريتنا من بين جميع القرى كي يقضي فيها هذه الأيام خلال سنته الطويلة..
بالطبع لم نتعب أنفسنا في وضع تبرير لمثل هذا القدوم؛ لماذا يترك البحر، فيما لو كان تخمين الرجل الحكيم في تسمية الطيور صحيحا، وكان أحد طيور البحر البحر الذي لا نعرف عن ماذا يعبر وقتها، لماذا يترك البحر في مثل هذا التوقيت من كل عام، ويستقر على أحد فروع الأشجار المقابلة للوادي، في كسل واضح، ودون تحليق يذكر، لأربعة أو خمسة أيام، ثم يختفي مجددا في انتظار العام القادم، لم نهتم، وإن كنت أتذكر الآن، أن تبرير رجل الطيور كان يتعلق بملل يخص بالطيور، وبالأخص طيور البحر، وأنه يأخذ هذا الوقت هنا في التفكير، وهروبا من المناظر المتكررة التي تمر عليه طوال العام..
كل هذا أمر جيد، وذكرى طيبة تستحق الرواية، لكن، في السنة السادسة أو السابعة لظهور هذا الطائر، حدث ما لم يكن في الحسبان: لقد قرر أحد رجال القرية اصطياد هذا الطائر.
لم يتعب نفسه في التبرير كثيرا، سوى أنه تحدث عن توتره من هذا الانتظار كل عام، وخشيته من عدم عودته، وقرر الاحتفاظ بهذا الطائر إلى الأبد.. حتى لو ميتا.
لم تمتلك القرية منطقا تدافع به عن هذا الطائر. إذ أن كل هذا الحب والتقدير لم يكن أمرا معلنا، لم يكن يدار أثناء الحديث شيء يخص لهفة القرية لمجيء هذا الطائر في موعده، وكان شعورا من الخجل يسيطر على رجال القرية يمنعهم من إظهار تعلقهم بطائر. ثم أنه لا يوجد منطق يمنع رجل من الصيد، أو من تحديد نوع طريدته، بإمكان أي رجل في القرية اصطياد أي شيء يطير أو يمشي.. لذا لم تظهر أية محاولة لثني هذا الرجل عن قراره.
لكن في داخل النفوس كان الحزن طاغيا ويسيطر على الجميع، كان هناك شعور كما لو أن أحد أبناء القرية هو من سيذهب ضحية لهذه الشهوة اللعينة..
في العام الذي اتخذ فيه هذا الرجل قراره، جاء الطائر مبكرا فوق العادة، جاء جميلا، وفتيا، وأكثر نشاطا من المعتاد، حتى أنه وعلى غير عادته، ترك تلك الجهة المقابلة للقرية، حيث يحط على أغصان الأشجار الكثيفة هناك، وأخذ جولة لمرة أو مرتين في سماء القرية، ومباشرة فوق سطوح منازلها؛ لقد مكن الجميع من رؤيته عن قرب وتقدير حجم اختلافه وتميزه عن بقية الطيور التي تشاهد طوال العام.
بالطبع كل هذا الكرم من الطائر، لم يثن الرجل عن قراره الصعب والمحزن.

في عشية أحد الأيام، وكنت خارج المنزل، أنظر جهة الأشجار هناك، سمعت نداء أبي:
ـ أحضر البندقية و.. تعال.
عرفت وقتها، مثلما عرف الجميع، أنها الساعة الحاسمة.
امتثلت،
حملت البندقية، دون أن أتمكن من تحديد الأفكار التي تجول في خاطري وقتها، غير أنني أتذكر الآن جيدا أنني أُحدثت جلبة مفتعلة ومبالغا فيها، كلما اقتربت من أبي، كنت أود أن الفت نظر الطائر، أن أثير انتباهه، لكن من الواضح أن فكرة الخطر الداهم لم تدر في ذهن الطائر الذي يخلو من التجربة.
اقتربت من أبي، الذي أصبح الآن على مقربة من الشجرة التي يحط عليها الطائر..
عندما وصلت له أخذ مني البندقية، ودون أن يظهر أي من تلك المهارات المتبعة أثناء الصيد؛ لم ينحن، لم يختر منطقة تخفي عن الطائر ما يود أن يقوم به، كل ما هنالك أنه وضع رصاصة في البندقية، تقدم بثبات إلى مسافة كافية، ثم صوب وأطلق.
لم يحدث أمر قدري ينقذ طائر القرية في اللحظة الأخيرة مع الأسف..
اخترقت الرصاصة الطائر، قُذف في الهواء مسافة قصيرة، ثم سقط على الأرض بجلال.
أخذني والدي من يدي، واتجه إلى الطائر، حمله عن الأرض، وجلس، أخذ لفترة طويلة يتأمله، رفع جناحيه، مدهما إلى أقصى حد لهما، مثلما أتذكر أن الطائر فعل أثناء تحليقه في سماء القرية للمرة الأخيرة، حمله من ساقيه وجسمه يتدلى جهة الأرض، امسكه من رأسه، تفحصه طويلا.. ثم نظر لي وقال:
ـ هذا الطائر لم يختر القدوم إلى قريتنا طوال هذه السنوات إلا من أجل هذه النهاية... أن أقتله.

لم يقتل أبي ذلك الطائر،
في الواقع أنا من اختلق حكاية اصطياده..
أقصد أنني وقعت في عشق هذا الطائر، حد أنني اخترت له هذه النهاية:
منحته رفعة أن يقوم أبي باصطياده، بدلا من أن يموت مثل بقية طيور البحر البعيدة والمجهولة.
بقلم : ضيف فهد
copy short url   نسخ
05/02/2017
4599