+ A
A -
قبل نحو سبع سنوات بحثت الدورة السابعة والعشرين لمجلس وزراء الداخلية العرب مسألة وضع استراتيجية عربية «للأمن الفكري». وثار وقتها لغط واسع حول ما إذا كان وزراء الداخلية أم الثقافة هم الأولى بذلك وما إذا كان وراء المصطلح الجديد أغراض مبيتة للتوسع في القمع الفكري بحجة الضرورات الأمنية. لكن المصطلح سرعان ما اختفى مع بداية الربيع العربي. فلم يكن معقولاً والتوقعات تشير إلى قرب انتصار الحرية أن يمضي مشروع الأمن الفكري قدماً.
لكن الربيع العربي تعثر. لا عرف من أطلقوه كيف يبنون الديمقراطية ولا استطاع من أفسدوه أن يستردوا عافية السلطوية. وقد نتج عن فشله أوضاع قلقة: عنف وإرهاب وحروب أهلية وصراعات طائفية وضغوط اقتصادية واجتماعية وأوضاع مفككة لا تستطيع السلطويات القديمة معالجتها بالحل الأوتوقراطي، ويعطى استمرارها المبرر لقوى التغيير للتمسك بالحل الديمقراطي. وما بين الحاجة إلى الأوتوقراطية والديمقراطية أو النظام والحرية كان لا بد من مصطلح يناسب أوضاع العرب بعد الإنكسار الربيعي يحاول استعادة النظام دون أن يغفل الأمل في الحرية. وهذا المصطلح هو الأمن الديمقراطي. وهو تعبير وافد تسرب من بعيد ثم ظهر في القاهرة في الرابع عشر من هذا الشهر في مؤتمر نظمه مركز دراسات السلام والتحول الديمقراطي التابع لمكتبة الأسكندرية بعنوان «الأمن الديمقراطي في عصر التطرف» شارك فيه ممثلون عن دول مرت بظروف مشابهة من بينهم رؤساء ورؤساء وزراء سابقون لدول مثل رومانيا ومولدوفا وبلغاريا والإكوادور وألبانيا ونيجيريا وصربيا وأوكرانيا ولاتفيا وكرواتيا وجورجيا والبوسنة والهرسك.
والمصطلح واحد من المصطلحات المتسربة إلى المنطقة التي لا تأتي إلا ومعها مشكلاتها مثله مثل الخصخصة والعلمنة والفوضى الخلاقة وغيرها. ولا تأتي تلك المصطلحات المتسربة إلا لأن مصطلحات أخرى أصيلة أصبحت هاربة بسبب الممارسات العربية الكارهة لها مثل مصطلحي العدل والحرية. فلو لم تكن تلك الكلمتان قد هربتا لما كانت كلمتا الأمن الفكري والأمن الديمقراطي قد تسربتا.
ومصطلح الأمن الديمقراطي جدلي بامتياز. فمنذ القرن الثامن عشر والبعض، مثل الفيلسوف الألماني «إيمانويل كانط»، يعتبر الديمقراطية شرطاً ضرورياً للأمن فيما استقر بعد ذلك في أدبيات السياسة بإسم نظرية «السلام الديمقراطي». لكن على جانب الممارسة طورت أغلب نظم الحكم السلطوية كراهية للديمقراطية اعتقاداً بأنها تهدد الأمن، الذي تدفع بأنه لن يتحقق إلا بلجم الحرية. لكن حتى من تبنوا مصطلح الأمن الديمقراطي اختلفوا حول تعريفه. فالرئيس الكولومبي «آلفارو أوريبي» الذي حكم من 2002 إلى 2010 تبنى سياسة «الأمن الديمقراطي» لمكافحة جماعات الإرهاب ومافيا المخدرات واعتمد فيها على تطوير قدرات الدولة على المراقبة والتحكم، والتواجد والانتشار القويين للدولة بين الناس للحد من العنف، واقتلاع جذور الإرهاب وشبكات الجريمة المنظمة والفساد بالقوة، والالتزام بالشفافية والكفاءة في إدارة الموارد. وقد جلب هذا التعريف على أوريبي انتقادات واسعة لأن سياساته كان فيها الكثير من الأمن والقليل من الديمقراطية، نجحت في خفض معدلات العنف والإرهاب إلا أنها قمعت المعارضين وتسببت في انتهاكات لحقوق الإنسان لأن تركيزها على الأمن لم يتناسب مع قمعها للديمقراطية.
وعلى عكس سياسة الأمن الديمقراطي للرئيس الكولومبي «أوريبي»، تقدم التقاليد الأوروبية تعريفاً مختلفاً له. ففي الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والتي دخلت حيز التنفيذ في 1953 وردت إشارة إلى أن العدل والسلام يحميهما الالتزام بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. ثم جاءت قمة فيينا في 1993 لتوصي بتبني «الأمن الديمقراطي» في كل أوروبا لأن الديمقراطية هي الوسيلة لتحقيق الأمن بمعناه الواسع وليس فقط العسكري وذلك بقبول التنوع وتحمل الاختلاف في الرأي والحد من استعمال القوة.
وقد ظهر هذا الجدل مجدداً خلال مؤتمر الأمن الديمقراطي في القاهرة. فهناك من تبنوا تعريفاً يشبه تعريف الرئيس الكولومبي «أوريبي» اعتبر أن الأمن الديمقراطي يعطي الأولوية للدولة في القيام بكل ما يتطلبه الحفاظ على وحدة أراضيها والتصدي بقوة للفكر المتطرف والإرهاب. فيما ذهب اتجاه آخر إلى أن الأمن الديمقراطي استراتيجية شاملة لا تقتصر على الجوانب الأمنية وإنما تمتد لتشمل إرساء تقاليد الحوار الفكري وتعزيز القيم والممارسة الديمقراطية. هذا الجدل حول أحد المصطلحات المتسربة يؤكد أنها لا تأتي إلا ومعها حمولات جديدة للاختلاف ولا تقدم بالضرورة حلولاً. ولهذا يبقى الأفضل من فتح الباب أمام تلك المصطلحات المتسربة السائبة وقف نزيف تلك المصطلحات الأساسية الهاربة والغائبة مثل الحرية والعدل والكفاءة والإنصاف. وهي مصطلحات إنسانية أكثر بساطة وأكثر إفادة.

بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
30/01/2017
5438