+ A
A -
يتفاءل البورميون اليوم بالمنعطف الجديد الذي قد ينقل بلادهم التعيسة إلى حالة جديدة تجتث ما زرعه فيها العسكر على مدى عقود من الزمن من قمع وتسيب وفساد وإخفاقات على مختلف الصعد، وترتقي بمستوياتهم المعيشية. ونقصد بالمنعطف الجديد إسدال الستار على البرلمان القديم الذي هيمن عليه العسكر، وبدأ عمل البرلمان الجديد المنبثق عن الانتخابات التشريعية التي جرت في مطلع نوفمبر 2015 وحققت فيها المعارضة بقيادة السيدة «أونغ سان سو تشي» زعيمة حزب «الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية» فوزا كاسحا.

لقد كان المأمول أن تكون بورما لحظة استقلالها عن بريطانيا في 1948 نموذجا للديمقراطية التعددية في آسيا كما الهند. وهي لئن بدأت خطوات جادة في هذا الطريق عبر وضع دستور متقدم، وتشكيل حكومة مدنية منتخبة برئاسة «أونو» الذي برز في الخمسينات من خلال مؤتمر باندونغ كزعيم آسيوي حكيم، فإنها سرعان ما وقعت فريسة لطموحات العسكر السلطوية. ففي 1962 قام قائد الجيش الجنرال «ني وين» باستنساخ ما قام به نظراؤه في دول العالم الثالث حديثة الاستقلال. وبعبارة أخرى استولى على السلطة، وشكل مجلسا ثوريا كبديل للحكومة المدنية وأوقف العمل بالدستور، بل قام هو ورفاقه الانقلابيون بأمور أكثر استهجانا وحماقة تمثلت في تطبيق نظام اشتراكي مشوه، وإطلاق برنامج للحكم والإدارة يتسم بالمركزية الشديدة، معطوفا على ممارسة القمع ضد الأقليات، وطرد الأجانب بعد تأميم ممتلكاتهم، وعزل البلاد عن الخارج، الأمر الذي أدى إلى توقف الاستثمارات الأجنبية، وانتشار الفقر، وانهيار الاقتصاد الذي كان يتوقع له في ذلك الزمن المبكر أن يكون ضمن الاقتصادات الآسيوية البارزة بسبب متانة البنية التحتية والإدارية وتنوع موارد البلاد.

استمر نظام «ني وين» مذاك وحتى 1988، حينما قرر صاحبه، تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية المتأثرة بما حدث في موسكو ودول شرق أوروبا، التقاعد وترك مسؤوليات البلاد في يد حفنة من تلامذته الذين شكلوا ما عــُرف بـ «مجلس الدولة للقانون والنظام». غير أن التلامذة فاقوا أستاذهم لجهة القمع الوحشي، والفساد والنهب، وخرق حقوق الإنسان، وعزل البلاد عن العالم الخارجي. ولعل من أكبر جرائم الطغمة العسكرية التي خلفت «ني وين» في السلطة من 1988 وحتى 2011 هو تدمير الاقتصاد البورمي إلى درجة تصنيف البلاد من قبل الهيئات الأممية ضمن الدول الأشد فقرا في العالم، على الرغم من امتلاكها لاحتياطات ضخمة من الغاز الطبيعي.

وقد قررت منظومة آسيان على مضض منح عضويتها لبورما في 1997 على أمل أن يستقيم سلوك قادتها العسكريين ويقـْدموا على شيء من الإصلاحات الاقتصادية على الأقل. بل إن آسيان حاولت بعد ذلك إنقاذ ما يمكن إنقاذه في هذا البلد عن طريق إغداق المساعدات عليه لتأهيل اقتصاده، غير أن العبء كان كبيرا جدا، ثم تضاعف العبء مع انفجار الأزمة الاقتصادية الآسيوية في 1989.

وهكذا تأخرت الإصلاحات الاقتصادية في بورما كثيرا ولم يلمس شعبها علاماتها إلا مؤخرا، حينما سمحت السلطات بفتح القطاع المصرفي المحلي أمام المنافسة الأجنبية، علما بأن هذا القطاع الحيوي ظل مغلقا لعقود أمام الاستثمارات الخارجية مما أدى إلى تخلف البنية التحتية المالية للبلاد، وبالتالي خشية المواطنين من التعامل مع المصارف وأدواتها كالشيكات وحسابات الادخار، وتفضيلهم التعامل بالمبالغ النقدية.

هذا المشهد يبدو أنه الآن إلى تغير، بدليل أن السلطة التي ورثت حكم العسكر أعطت مؤخرا موافقتها الأولية لأربعة مصارف أجنبية.

د. عبدالله المدني

copy short url   نسخ
20/03/2016
839