+ A
A -
رغم توجهاتها الداخلية المحضة، إلا أن ثورات الربيع العربي أبرزت نـفساً احتجاجياً ضد التاريخ الاستعماري في المنطقة العربية وآلياته المستوطنة وآثاره التدميرية بدءاً من وعد بلفور وخدعة سايكس بيكو إلى وعد بوش الكبير وتهور بوش الصغير مروراً بالسرطان الصهيوني المتـغلغل في عمق الأرض العربية الشماء، على النـقيض من ذلك بدأت (الثورة العربية المضادة) من الخارج وسعت إلى إعادة الاستعمار فـتمخضت الثورة المضادة عن قواعد أجنبـية محمية بالدم العربي في دول وسيطرة أجنبـية على القرار السياسي والاقتصادي في دول أخرى، فأصبح العرب مجرد وليمة لذيذة في مأدبة اللئام!
تجربة الاستعانة بالقوى الخارجية (من خارج الدولة) وقوتها العسكرية المدمرة للانـتصار على الثورة ظهرت في سوريا وتمددت على وزن باقية وتـتمدد حتى بلغت حداً لا يمكن وصفه في كارثة حلب! في دول أخرى تـنوعت طرق الثورة المضادة في الاستعانة بالقوى الخارجية لتـشمل ترتيب انـقلاب مضاد أو سرقة نصر انـتخابي أو تمكين السيطرة على البطون والعقول مع بقاء فكرة استـنساخ التجربة السورية المريرة في دول أخرى خاصة في ليبيا! كل يوم جديد يؤكد أن الثورة العربية المضادة على استعداد للتحالف مع الشيطان من أجل التـفوق على الشعب وإخماد ثورته!
قبـيل انـقـشاع معركة حلب توافد ثلة من السياسيين الليبيين على موسكو يحملون في يد وعوداً بقواعد عسكرية مشابهة لقاعدتي حميميم وطرطوس في سوريا! وفي اليد الأخرى مطالب بتكرار تجربة مدن سوريا على مدن ليبية لم تستسلم لمعركة حفـتر التي اسماها «معركة الكرامة» ثم ذهب يـبحث عن جرازياني جديد! علماً بأن معركة الكرامة المفبركة هذه تم إطلاقها واعتمدت من شرارتها الأولى على القوى الخارجية لكي تبقى وتـتمدد على حساب كرامة الشعب الليبي الصامد! وقد تـزامنت مع هذه الزيارات الحفترية، زيارات لوفود من الساسة الحوثيين وحليفهم المخلوع إلى موسكو لاستكشاف آفاق التعاون مع الدب الروسي المنـفلت! حتى الساسة العراقيون في دولة العبادي أخذوا يغازلون الدب الروسي مع أن العم سام مازال يدعمهم على الأرض وفي السماء! موسكو أصبحت قبلة لمن لا قبلة له!
صحيح أن الوضع السياسي والجيوسياسي في ليبيا أو اليمن مخـتلف عن الوضع في سوريا لجهة الاستعانة بالترسانة الروسية المدمرة والعقلية الروسية المستبدة، لكن لا شيء مستحيل في السياسة ولا تصرف مستحيل عند أقطاب الثورة المضادة! يضاف إلى ذلك أن الانسحاب الأميركي من مباشرة قضايا الشرق الأوسط وتركها للآخرين في حدود عدم التأثير على المصالح الأميركية العليا سيُنضج إمكانية التدخل الروسي أو حتى الفرنسي أو الصيني في مناطق أخرى من دول الربيع العربي سواء بالصورة الدموية نفسها التي حدثـت في سوريا أو بطرق أخرى!
المحير في الأمر أن هناك قدراً مهولاً من السهولة عند الجمهور العربي المؤيد للثورة المضادة لقبول التدخل الأجنبي وتبريره! في الماضي كان المحتل يـبذل جهداً ودماً ومالاً من أجل أن يحتل مدينة واحدة من الأرض العربية، أما اليوم فيؤسس قادة الثورة المضادة مفهوم «الاحتلال المجاني» لكل من هب ودب ويوفرون لهم قوات تساندهم وتـقاتل معهم لمحاصرة وتدمير مدنهم وقراهم وبلداتهم المتواضعة! أفلام الخيال العلمي لم تكن لتصل لمثل هذا المستوى من الفظاعة وتبرير الانـتحار السياسي! في بلدان الربيع العربي التي تـشهد ثورات مضادة مدعومة خارجياً تم تسليم مقدرات البلد وقراراته السياسية والاقتصادية للأجنبي في ظل غيـبوبة شعبـية لا يمكن وصفها!
بكل غرابة وبكل بلاهة سياسية وٌضعت الشعوب العربية في دول الربيع العربي بين خيارين أحلاهما مر: الاستبداد أم الاستعمار وفي كنف هذين البديلين واقع مؤلم هو «الاستعمار الوطني» (أي الاستعمار المحمي من قبل الاستبداد)! في المحصلة النهائية يكون الاختيار بين مزيج من الحرية المسلوبة والكرامة المستباحة ويظل الدم العربي مسفوكاً على المقصلة ذاتها التي ركبتها الثورة العربية الكبرى عند الاستعانة بالقوى الاستعمارية لصناعة واقع عربي ضعيف ويعتمد على الخارج!
ما الخطأ الذي أوصل دول الربيع العربي إلى هذه الجدلية السياسية المضطربة (الاستبداد مقابل الاستعمار)؟ هناك أسباب عديدة لكن الأبرز أن ثورة الربيع العربي جاءت على شكل «هبات» ضد الظلم والطغيان وليست ثورة ثـقافية شاملة! كما تبلورت مطالب الربيع العربي في طلب إسقاط رأس النـظام الفاسد دون دولته العميقة الفاسدة، وبدون بناء إطار ثـقافي وقوة دفع ثورية تبقى شعلة الربيع العربي متوقدة! وفوق كل ذلك لعب المكر السياسي الدولي دورا خرافيا في تبريد الثورات العربية أو عسكرتها أو ربطها بأجندات مخـتلفة ولعل أكثر ذلك خبثاً ربطها بالحرب الدولية على ما يسمى الإرهاب!
بقلم: د. صنهات بن بدر العتيـبي
copy short url   نسخ
17/01/2017
4843