+ A
A -
«الشعب ركب يا باشا».. كانت هذه استغاثة فرد أمن بأحد قادته خلال ثورة 25 يناير في مصر.. وتلخص استغاثته إدراك الدولة لما يجب أن يكون عليه المجتمع.. جسداً بلا حراك وكتلة بلا روح، لكنها فوجئت به يهب في وجهها.. ولفترة، سرت نشوة بأن المجتمع كسر حاجز الخوف.. لكنها نشوة لم تطل..
فقد انتكست كل ثورات الربيع العربي وعادت الدولة لتركب المجتمع من جديد وترفع أسوار الخوف مرةً أخرى، والأمر برمته خطأ، فلا المجتمع حتى وهو يثور ليستبدل نظام حكم من حقه أن يركب الدولة ويعبث بها، ولا الدولة من بين حقوقها لما تكوّنت أن تركب المجتمع وتكتم أنفاسه.
لكن بسبب حمولة تاريخية عربية ثقيلة لم يعتد لا هذا الطرف ولا ذاك على قبول الآخر والإقرار بالتوازن معه. الدولة تعودت على خنق المجتمع، والمجتمع اعتاد على التملص من الدولة. ولم يستفد الاثنان من الربيع العربي لتصحيح هذا التوازن المختل. رفضت الدولة أن يعلو صوت الشعب. ورفض المجتمع أن يستوعب معنى الدولة. في سوريا ضربت الدولة المجتمع من البداية. أما في مصر، وإلى درجة ما في تونس، أبدت الدولة تعاطفاً مع الثورة. لكنها اتجهت بعد سكون العاصفة إلى الممارسات التاريخية التي اعتادت عليها: أن تتكلم والمجتمع يسمع، أن تأمر والمجتمع يطيع، أن تقرر والمجتمع يرضخ. وللحق، فالدولة العربية لا تقف بأكملها ضد المجتمع وإنما بالتحديد تلك القوى الغاطسة والمتحكمة أو ما يُعرف بالدولة العميقة. تلك الدولة المستترة القابضة على صناعة القرار والثروة وموارد القوة والتي لا تقبل أن يرفع المجتمع رأسه، وتناصب المشاركة الشعبية العداء ولا تريد من الديمقراطية إلا الرتوش.
هذه الدولة العميقة عتيقة لأنها لم تظهر فجأة وإنما تكونت عبر تاريخ طويل. كما أنها معيقة لأنها لا تهتم إلا بمصالحها. تأخذ من العام لتكوّن ثرواتها الخاصة، ولا تنشغل بمشكلات العوام مثل الغلاء والصحة والبطالة. فطالما هي بخير فليذهب المجتمع إلى الجحيم. وهذا ما جعلها مراراً قمعية تظهر العين الحمراء للمجتمع حتى لا يتجرأ عليها. ومثل هذه الدولة العميقة العتيقة المعيقة لا يمكن أن تنهض بإصلاح طالما أنها تُغيّب وتنفي المجتمع الذي هو مادة وأداة الإصلاح في نفس الوقت.
لكن المجتمع بدوره وبالرغم من أنه يقف أحياناً في وجه الدولة ليحملها على تحسين أدائها إلا أن فيه بالمثل قطاعات عميقة تكره الامتثال للقيم التي تأسست عليها الدول الحديثة وتطورت على هديها المجتمعات المتقدمة. مجتمع عميق يحمل أفكاراً راسخة تكره مثلاً الالتزام بالقانون ربما بأكثر مما تكرهه الدولة العميقة وتسرف في القمع الديني وتُلغي الآخر الاجتماعي مثلما تلغي الدولة العميقة الآخر السياسي. هذا المجتمع العميق أيضاً عتيق وعقيم. هو مصدر كل الحمولة التاريخية المعوقة للإصلاح وكل العادات والتقاليد والسرديات المعادية للتغيير. هو كل القطاعات الاجتماعية المتحجرة التي ترفض المواطنة والمسؤولية والقانون واعتادت على الرشوة والنفاق والمحسوبية. ومع أن المجتمع العميق ليس بالضرورة راضيا عن الدولة وله أحياناً خلافات حادة مع الدولة العميقة مثل الصراع بين الإسلاميين المتشددين وقوى الأمن العميقة إلا أن سلوكه، وبدون أن يدري، يعزز الدولة العميقة التي تعزز بدورها من انتشار المجتمع العميق. فالدولة العميقة تحب الفساد ولهذا فإنها تشجع المجتمع العميق على مزيد من الفساد. وتخنق الحريات باسم الحرب على الإرهاب فتدفع المجتمع العميق للمتشددين أكثر إلى العنف.
الدولة العميقة والمجتمع العميق قديمان في هذه المنطقة. كلاهما عائق للتغيير. والمشكلة ليست فقط في القماشة السياسية المتاحة وإنما أيضاً في الثوب الاجتماعي. فالدولة العربية الحديثة ولدت مشوهة في أحشائها دولة عميقة تفسد رسالتها. والمجتمع العربي الحديث الذي أنتج الدولة يحمل هو الآخر في جوفه قطاعات عميقة أشد تشوهاً وتخلفاً وجموداً. وإذا كانت الدولة العميقة والمجتمع العميق يتصادمان وتجري بينهما تصفيات، إلا أنهما يتواصلان ويتوصلان إلى تسويات. هذا مثلاً ما جرى مراراً بين قوى المال والإعلام والأمن من جانب والقوى السلفية الجامدة ذهنياً من جانب آخر. فلا هذا يطيق ذاك ولا ذاك يقبل هذا. لكنهما عادا مراراً عبر التاريخ لبعضهما بسبب الحاجة. العلاقة بينهما مركبة. يقفان أحياناً وجها لوجه لكنهما في أحيان أخرى يضعان يداً في يد حتى لا يأتي تغيير يهدد العمق المريح الذي يتمتعان به: فالدولة العميقة يهمها أن تبقى متحكمة في السلطة السياسية والمجتمع العميق يحرص على أن يبقى محتكراً للسيطرة المجتمعية.

بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
16/01/2017
6244