+ A
A -
تتفتق الذهنية العربية باستمرار بمظاهر تدل على مدى وعمق الأزمة التي يعاني منها مجتمعنا العربي. وهي أزمة في جوهرها هيكلية حيث لا توافق بين الفكر والواقع أو بين الاقوال والأفعال، ففي حين يجرى إطلاق العنان للفكر والتعبير عنه يجرى تثبيت الواقع وإرادة الفعل بحيث يبدو الانفصام ماثلاً لكل ذي بصيرة. فمثلاً طُرح شعار النقد البناء كتوجه وطولب به كممارسة ولكنه لم يتحول إلى وسيلة فاعلة وانما أتخذ شكلاً فوقياً لاسباب عديدة فكانت النتيجة لذلك انتقاله إلى مرحلة أخرى متقدمة بعض الشيء وهي مرحلة جلد الذات فتكور المجتمع حول نفسه مدعياً أنه الجلاد وأنه الضحية في نفس الوقت وانتقل الوضع بعد ذلك إلى مرحلة أكثر خطورة ونشهد أطرافها اليوم وهي مرحلة «شتم» المجتمع والتشكيك في قيمه ومبادئه وتراثه والمقصود بالمجتمع هنا ليس أولئك الأفراد وانما ما يشتركون فيه من ثقافة وتراث. ففي حين يبدو النقد الذاتي مطلباً تظهر المبالغة في جلد الذات وكأنها نكوص أما شتم المجتمع فإنه يبدو مرحلة متقدمة من انسداد الرؤية وعدم التمييز أو «حالة منخولية» MELANCHOLY وهي دليل الثبات المذموم الذي يجافي الفطرة.
لقد مرت الأمة عبر تاريخها بمحاولات عديدة انبرى لها العديد من أبنائها ومثقفيها اتخذت من هذه الأنماط البكائية الثلاثة ما بين النقد والجلد والشتم مرتكزاً أو محوراً ثابتاً خاصة فيما يتعلق بإشكالية التراث والحداثة. فمنهم من رأى بالمزاوجة ومنهم من رأى بتجزئة التراث وتبين غثه من سمينه وآخرون رأوا بالقطع بين الماضي وإعادته إلى المتاحف فقط ومثل هذا الوضع لم يكن قصراً على أمتنا العربية والإسلامية ولكن غيرنا من الأمم كانوا أكثر حسماً للموضوع ولم تصل بهم الأمور إلى ما وصلنا إليه من مراوحة حول الذات. المشكلة كما أراها تبدو في تماهي الماضي مع الحاضر والنظام بالمجتمع بحيث لا تبدو هناك فواصل واضحة بين هذه الأطراف فالماضي نعايشه حاضراً والنظام هو المجتمع أو هو الراعي بينما المجتمع هو القطيع المسير طوعاً أو كرهاً. في مثل هذه الحالات تبدو ردود الأفعال انتحارية وفي كل الجهات والاتجاهات.
في المجتمعات الصحية يتحول النقد عبر آليات معينة إلى أبعاد مادية أو إلى مشاريع إصلاحية عبر القنوات المتعددة القانونية أو البرلمانية. فالأصل في النقد أن يكون فاعلاً أي يمكن ترجمته إلى شيء ملموس ولا يصل إلى مراحل أخرى أكثر خطورة فهو في هذه الحالة ذو نبرة تصاعدية خاصة إذا اصبح هدفاً في حد ذاته. فالمجتمع الذي لا توجد لديه آليات استيعاب مظاهر التغيير عن الرأي بحيث لا تشكل أية إعاقة أو أزمة تفتك به لا يستطيع أن يدعى الحرية أو الديمقراطيـــة بل هو أقرب إلى الفوضى أو عدم الانتظام.
لقد استعاضت أنظمتنا العربية عن إيجاد آليات لاستيعاب هذه، باستغلال توافر التكنولوجيا القنوات الفضائية لتلعب على وتر المكبوت العربي بأشكاله المتعددة تكريساً لاستمرارها لذلك شهدنا ونشهد يومياً قواميس متجددة من عبارات النقد وجلد الذات نهاية بالشتيمة. حتى خيل للبعض بأننا أمة من «الشتامين» خاصة إذا كان هناك ما يدعم هذا التوجه تراثياً حيث باب الهجاء يعد من أهم أبواب «الشعر» وهو ديوان العرب فإن ذلك يتفق كذلك وما جرى تسميته ظاهرة صوتية وهو أبلغ وصف لهذه الأمة في حاضرها على الأقل.
في المجتمعات التي شكلت الصدفة التاريخية أنظمتها وتراتبها الاجتماعية لابد وأن تكون مرتعاً خصباً لأشكال الانحرافات النفسية لشعورها بالحرمان والتهميش.
إن تزايد ضغوط العولمة هو ما حدا بالأنظمة العربية لإطلاق حرية الفضاء وتشجيعها ولكن مقاييس التنمية الحقيقية تبدو أنها لا تزال بعيدة نظراً لان الضغط خارجي المصدر وعولمي التأثير. فإن كان ما نمارسه اليوم عبر وسائل الميديا بأشكالها ما هو سوى مظهر جديد لشعر الهجاء في السابق فالمصيبة عظيمة أما إذا كان ذلك دليلاً على عجزنا ويأسنا من إصلاح الحال عربياً وداخلياً أولاً فالمصيبة أعظم.
بقلم:عبدالعزيز بن محمد الخاطر
copy short url   نسخ
09/01/2017
4083