+ A
A -
شيء يشبه الشك، يدور حوله، يحاوره، فكرة اللايقين حيال المواقف، حيال فهم التصرفات، صنعت منه الرواية الفرنسية «آني إرنو» رواية« المكان»، عن دار شرقيات. كانت هذه اللعبة هي ما جعل من هذه الكتابة، التي تشبه إلى حد كبير كتابة المذكرات، رواية. لكن الأمر لا يتعلق بهذه الرواية فقط، فمعظم، إن لم نقل كل ما كتبته الروائية آني إرنو يحمل نفس السمة، السمة الذاتية، ما يمكن ان يطلق عليه التخييل الذاتي، هذا التيار الذي يمكن وصف إرنو بأنها أحد رواده، بل أن هناك من يذهب إلى أنها المؤسسة الحقيقية لهذا التيار. حيث لا يستطيع القارئ أن يضع حدا فاصلا ما بين التأليف والتذكر، ما بين الحقيقي والمصنوع، هذا التقاطع اللافت والمحير هو ما شيدت عليه هذه الكتابة كامل منجزها المهم والمُتابع.
رواية المكان، هذه التي نقدم قراءة سريعة حولها، تختلف عن باقي أعمال آني إرنو الأخرى، مثل رواية «الاحتلال» عن منشورات الجمل، التي تدور حول ثيمة الغيرة، أو رواية «لم أخرج مع ليلى» عن المشروع القومي للترجمة، والتي تدور تقريبا حول العطف، وروايات أخرى عديدة، تقوم على موضوع محدد مستلهم من الحياة الحقيقية للكاتبة، إلا أن رواية المكان تقوم باستعراض بانورامي سريع، لكنه شامل تقريبا، لحياة الكاتبة، وأسرتها، والفجوة التي صنعها انتقال الكاتبة إلى وسط اجتماعي مختلف، برجوازي كما تصفه، من وسطها القروي قليل التعليم، أو الجاهل كما ينظر إلى نفسه ذلك المجتمع. هذا الوعي المرضي بالذات، الوعي بهذا النقص العصي على التغيير، والشعور دائما بالقلة، وانعدام المنافسة على مستوى الأسلوب، كان متمثلا بشكل ساخر في تصرفات والدها التي بدأت الرواية من لحظة وفاته، ثم تعود من هناك، بطريقة الفلاش باك في استعراض محايد تقريبا، منفصل بشكل كامل عن الإدانة، ومتعاليا عن التحليل، في تصرف مقصود، وإن كان بات سمة تدمغ مجمل أعمال آني إرنو، في قدرتها الفائقة على الحياد مع الموضوع، إبعاد سلطة الحكم الذاتي على الحدث، أي الانحياز لعدم التدخل. هذا ما يظهر، لكن، ولأن لكل قارئ وجهة نظر خاصة، أجد أنها لم تقم بهذا الإخفاء بشكل كامل، أم أنها لم تُرد ذلك؟!.. في مرات كثيرة، ومع أنها تصف، تتذكر، ما يقوم بها والدها أثناء لقاءاته – تلك التي تحدث ضد إرادته في الغالب – مع أوساط اجتماعية ينظر لها على أنها متفوقة عليه بطريقة لا يمكن تعويضها، لكن يقوم بكل ما في وسعه للسيطرة على تلك الفوارق من خلال التصرفات، في ذلك السرد الوصفي، يظهر نبرة متعاطفة، خفية صحيح، لكنها موجودة هناك في الداخل بين الكلمات. هذا أمر يثير الشك، يدفعك إلى عدم التيقن من الحياد، ولم تفلح موضوعية الكاتبة، رغم إتقانها، في دفنها بالكامل، في هذا المقطع من الرواية مثلا:« في الغالب مأساوي: «انتبهي جيدا في مدرستك». الخوف من أن تزول فجأة هذه الهبة الغريبة من القدر: درجاتي الممتازة، كل اختبار ناجح، وبعد ذلك كل امتحان شيء يكتسب، الأمل أنني سوف أكون أحسن منه. متى اُستبدل هذا الحلم بحلمه الخاص، الذي اعترف به مرة، أن يكون لديه مقهى جميل في قلب المدينة، برصيف وزبائن من المارة، وآلة كهربائية للقهوة على البار».
هذا مدخل سريع لعالم آني إرنو الروائي الجميل لمن لم يسبق له التعرف عليها، تلك الروائية التي ربما يؤدي عدم الاطلاع على مجمل أعمالها، والاكتفاء بعمل واحد، إلى أن ينظر له بشيء من الاستخفاف وعدم الاهتمام، لكن، وعند تتبع هذه السلسلة الطويلة من الأعمال وربطها بحلقة واحدة، وفهم الطريقة التي تتبعها من خلال توظيف تيار الوعي الذاتي، سوف يكتشف كاتبة مهمة جدا، ومتعة قرائية لا يمكن تفويتها.

بقلم : ضيف فهد
copy short url   نسخ
08/01/2017
4865