+ A
A -
نظرة إسرائيل إلى علاقاتها بالولايات المتحدة، تحكمها مجموعة من الاعتبارات، المجردة من الحس السياسي، وتخلو من المنطق، وتناقض حقائق الأمور، بل وتتجاوز قواعد القانون الدولي، والمبادئ التي تحكم العلاقات الدولية، بما فيها العلاقات بين الحلفاء.
أحد هذه الاعتبارات كان ما تراه إسرائيل من أن تحيز أميركا لها، حتى في حالة ارتكابها جرائم إنسانية، وعدوانا عسكريا، هو حق لإسرائيل ينبغي على أميركا ألا تلومها عليه، بل أن تباركه.
وأذكر حين كنت في الولايات المتحدة في أواخر التسعينات، أن أحد مراكز الدراسات السياسية– وعلى ما أذكر أنه كان مجلس العلاقات الخارجية– قد نظم مناقشة موضوعها تحيز السياسة الخارجية الأميركية إزاء النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. وقتها حشدت المنظمات اليهودية الأميركية طاقتها في حملة رافضة لهذه المناقشة، مدعية أن التحيز لإسرائيل هو من أسس العلاقة بين الدولتين، ولا ينبغي المساس به. وفي نفس الوقت كان أي عضو بالكونغرس يتجرأ بإعلان اعتراضه على سياسة التحيز التي لا تتغير، يواجه باتهامات تصفه بمعاداة السامية.
ولعلنا لاحظنا ما حدث مؤخرا عندما امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت على قرار مجلس الأمن، بإدانة بناء المستوطنات على الأراضي الفلسطينية، وما أعلنته حكومة إسرائيل بأن عدم استخدام الولايات المتحدة حق الفيتو لإجهاض القرار بأنه موقف شائن.
وارتبط بالنظرة الإسرائيلية للعلاقة مع أميركا، سعيها منذ منتصف التسعينات– نتيجة تصاعد الوعي العالمي بعدالة القضية الفلسطينية وصلف السياسة الإسرائيلية– وتزايد اعتراف الدولة بعدالة حل قضية فلسطين في إطار دولتها المستقلة– تصور إسرائيل أنها يمكن أن تعمل على تقزيم صورة قضية فلسطين، وتقليص حجم الاهتمام بها، وأن ذلك يمكن أن يتحقق– من وجهة نظرها– إذا تم خلق إطار من المشاكل الإقليمية التي تكون بمثابة طوق من حول القضية الفلسطينية، لتصير مجرد مشكلة، ضمن العديد من المشاكل الملتهبة في النطاق الجغرافي للشرق الأوسط.
وبدأت هذه المساعي من الناحية العملية، مع تولى المحافظين الجدد، الذين يحملون فكر الصهيونية، إدارة السياسات الخارجية والدفاعية في عهد جورج دبليو بوش بدءا من عام 2001، وإطلاق تصريحات تنكر الحق الفلسطيني، وتعترض على مرجعيات عملية السلام. ثم تلا ذلك في عام 2005 الإعلان من حكومة بوش عن مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي حدد مجال اهتمامه بمنطقة تمتد عبر العالم الإسلامي، من أفغانستان شرقا إلى المغرب وشمال إفريقيا غربا، وهي منطقة شديدة الاتساع، تتنوع فيها المشاكل، ولا يجمع دولها تجانس، فهي تتفاوت في الثقافات، واللغة، والتاريخ، والعادات، والتقاليد. لكن المشروع كان يصف جميع دول هذه المنطقة بأنها مصدر الإرهاب، ومنبعه. ويتجاهل تماما القضية الفلسطينية، أملا في طي صفحة النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. وبمحاذاة هذه المساعي تحركت إسرائيل ضمن خطط مدروسة، للتقارب مع أكبر عدد تستطيعه من دول العالم، ليكونوا لها داعما في مواجهة أي قرار دولي بحق الفلسطينيين.
حدث ذلك وفق سياسات وخطط إلى أن فوجئ نيتانياهو بأن مساعيه فقدت فاعليتها، في اللحظة التي صوت فيها مجلس الأمن بأغلبية 14 صوتا، وامتناع دولة واحدة عن التصويت هي أميركا، حتى اندفع في تصريحات انفعالية وغاضبة ضد أميركا ذاتها، ووصف القرار بأنه مخز. وأن العالم– على حد قوله– يتحيز ضد إسرائيل.
وهو تعبير نابع من اعتياد إسرائيل على أن التحيز الأميركي لها، في أي شأن يتعلق بالنزاع في المنطقة، كان قاعدة ثابتة، وعرفا جاريا، لا تستطيع حتى أميركا أن تحيد عنه، خاصة أن التحيز مثله مثل الفيتو في مجلس الأمن، هو بمثابة تصرف تلقائي، لا يتغير، وكأنه تقليد راسخ، أو التزام لا يستطيع أي رئيس أميركي أن يتحلل منه. فأميركا كانت دائما تستخدم الفيتو في مجلس الأمن لمنع صدور أي قرار يمس إسرائيل، مهما كانت عدالة منطوق هذا القرار، وضروراته للسلام في المنطقة.
وعقب صدور قرار مجلس الأمن، هددت إسرائيل بأنها لن تلتزم به، وستواصل إنشاء المستوطنات في الضفة الغربية، والقدس الشرقية.
إن منطق التحيز كان يجرد أميركا من مصداقيتها، كوسيط نزيه في مفاوضات السلام، لكنها ظلت متمسكة بدور الوسيط، رافضة تدخل أي دولة في هذا الدور بما في ذلك حلفاؤها في أوروبا، لكن حدث في الفترة الأخيرة وبالتحديد في عام 2016، تحركات من عدد من القوى الدولية، لكي يكون لها دور في عملية السلام، منها فرنسا التي دعت لمؤتمر للسلام وحل القضية الفلسطينية. وهو ما يحمل مؤشرات على احتمال سحب زمام هذا الدور من يد أميركا. بالإضافة إلى تصعيد إسرائيل سياساتها في التوسع في المستوطنات، في تحد علني وصارخ ليس فقط للعالم، بل ولصورة أميركا ذاتها التي قام دورها كوسيط على أساس الإقرار بعدم شرعية المستوطنات، وبأن الوضع النهائي للقدس يتحدد في المفاوضات.
وأمام التحدي الإسرائيلي لأميركا ذاتها، وبناء على هذه الاعتبارات الخاصة بتغيرات الموقف الدولي، جاء بيان وزير خارجيتها جون كيري الذي ألقى على سياسة نيتانياهو مسؤولية إهدار فرص حل الدولتين، وأن في ذلك تهديد ليس فقط للسلام في المنطقة، بل أيضا لأمن إسرائيل.
فهل تغلق المشكلة عند هذا الحد؟..
ليس هذا مؤكدا، ويمكن أن تكون له تداعيات يحاول فيها نيتانياهو حشد القوى اليهودية في أميركا لرفض موقف الحكومة الأميركية، ولأن نيتانياهو ليس فقط رئيسا لحكومة إسرائيل، بل هو الرمز القيادي لحركة الاستيطان غير الشرعية، وأن موقفه لا تحكمه اعتبارات السياسة، لأنه موقف أيديولوجي منغلق على نفسه، منعزل عن الواقع، وعن العالم وما يتغير فيه.

بقلم : عاطف الغمري
copy short url   نسخ
06/01/2017
4160