+ A
A -
يبدو أن روح صامويل هانتنجتون ستظل تطاردنا طالما ظل العداء للإسلام منتشراً وطالما ظل العرب والمسلمون عاجزين عن تقديم أنفسهم للحضارة بشكل جديد. كل يوم تقع أحداث تُثبت صحة ما قاله هانتنجتون عن صراع الحضارات وعجز العرب والمسلمين عن دمج أنفسهم في تيار التاريخ. وإلى اليوم لم تخرج المواقف العربية المعاصرة من الحضارة الحديثة عن ثمانية مواقف تكشف كلها عمق الأزمة وحدة الخطر القادم ربما قبل أن يصل هذا القرن إلى منتصفه أو حتى إلى نهاية ربعه الأول.

فبرغم حث عشرات النهضويين على «العمل الحضاري» منذ أكثر من قرن إلا أن حال العرب ما زال يتراوح بين واحد من ثمانية مواقف هي: «الخجل الحضاري»، «الملل الحضاري»، «الزعل الحضاري»، «الدجل الحضاري»، «النقل الحضاري»، «الغزل الحضاري»، «الزلل الحضاري»، «والفشل الحضاري».

«الخجل الحضاري» يظهر على هيئة شعور واسع بالانكسار رياضياً وبيئياً وسياسيا ًواقتصادياً وتجارياً وعلمياً أمام مهارة لاعبي ونظافة مدن وحرية نظم ووفرة ثروات وفوائض مدفوعات ومستوى جامعات البلدان الغربية. هو ردة فعل إنسانية منطقية أمام المتقدمين لا يتخلص منها إلا ذوو العزم والرؤية. والعرب وإن امتلك بعضهم كثيراً من العزم إلا أنه عزم لا يجدي طالما لا تتوافر لديهم الرؤية. وهذا دائماً هو وضع الخجول. يشعر أن لديه طاقة لكنه لا يعرف كيف يوظفها ليكتفي بالحسرة والكسوف والفرجة على الآخرين وهم يسبقونه.

أما «الملل الحضاري» فيعيشه ملايين العرب سواء من بقوا في بلدانهم راضخين للأمر الواقع أو من هاجروا إلى الدول المتقدمة لكنهم لا يشعرون فيها باللذة الكاملة وسط ثقافة لا يهضمونها وعادات وتقاليد يخشون منها على أجيالهم الجديدة. لكن لا «الخجل الحضاري» ولا «الملل الحضاري» بخطورة «الزعل الحضاري». ذلك الموقف الذي يجمع الأصوات الغاضبة والأسلحة الفتاكة والجماعات المتشددة المخاصمة للحداثة وللغرب وكل تجارب التنوير الإنساني. هو موقف القاعدة وداعش والخطاب الديني الغريب على الإسلام الذي يدعي أنه صوت الإسلام إلى العالم. وبقدر ما أن هذا «الزعل الحضاري» يحشد خلفه أتباعاً ومناصرين فإنه يدفع كذلك بسبب عنفه ومغالاته إلى شعور متزايد «بالخجل الحضاري».

لكن ثمة موقفا آخر يزيد الخجل هو «الدجل الحضاري» الذي هو ظاهرة العرب في القرن الحادي والعشرين بامتياز. إذ لم يعد الدجالون يخجلون بل باتوا يكابرون ويصرون على أنهم صناع مجد وحضارة. فهذا جهاز للعلاج قال دجال إن ألمانيا وأميركا لا تقدران على صنعه، ثم تبين أنه ولا شيء. وهذه قنوات إعلامية مليئة بدجالين يدعون أنهم شركاء في صناعة الخطاب الإعلامي العالمي. «الدجل الحضاري ليس إلا ظاهرة صوتية. قعقعة بلا قيمة ولغو بلا مردود.

يلي ذلك موقفان آخران أحدهما أعلى في الدرجة من الآخر. فهناك «النقل الحضاري» ويجمع كل من ينقلون حرفياً عن المتقدمين ومن يأخذون منهم لكن بتصرف يتماشى مع ظروف ثقافاتهم وبلدانهم. ويتسع «النقل الحضاري» ليشمل تقريباً كل شيء من أصغر الأشياء مثل الملابس وقصات الشعر إلى أكبرها مثل التعليم والأفكار. لكن «النقل الحضاري» يهون أمام «الغزل الحضاري» الذي يقدم أصحابه خطاباً فكريا ًمتكاملاً يبجل الغرب ويقدس مساره التاريخي. موقف لا يكتفي بالنقل التفصيلي عن الغرب وإنما يصل إلى الإعلان الصريح عن كراهية الذات وإظهار الشعور بالفخر مع كل تبجيل للحضارة الغربية.

يبقى الموقفان الأخيران وهما «الزلل الحضاري» و«الفشل الحضاري». فبالرغم من وجود محاولات للإصلاح وتجارب للانفتاح وجهود للتغيير إلا أنها كلها تقريباً وبلا استثناء انتهت إلى كثير من الزلل والسقوط. ومع تكرار الزلل ومع الإصرار على أن لنا خصوصية تمنعنا أن نكون مثل غيرنا تحولت المواظبة على الزلل إلى حالة «شلل» بل وإلى «فشل حضاري» كامل.

هذه المواقف الثمانية محبطة جداً ومع هذا يجب ألا تسد باب «الأمل الحضاري» في أن يصبح «العمل الحضاري» في يوم ما خياراً عربياً جماهيرياً ونخبوياً متفقاً عليه. العمل هو المدخل الوحيد للحاق الحضاري. وأي أشياء غيره فليست إلا بوابات واسعة للخروج من التاريخ.



بقلم : د. إبراهيم عرفات

copy short url   نسخ
25/04/2016
1205