+ A
A -
أعود مراراً إلى خطأ شائع بين بعض الكتاب الذين يستسهلون الاستمرار في أخطائهم دون أن يراجعوا معرفتهم اللغوية لتطويرها، ودون أن يتساءلوا، ودون أن يسألوا أحد العارفين. قال سبحانه وتعالى في سورة آل عمران متحدثاً عن مريم العذراء عليها السلام «كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً». نلاحظ في الآية الكريمة فعلين ماضيين: «دخل» و«وجد» ولكننا ننبه إلى «كلما» وهي ظرف يتضمن معنى الشرط ولكنه غير جازم يستلزم فعلين ماضيين: فعل الشرط وجواب الشرط. قال المتنبي:
كلما أنبت الزمان قناة ركـَّـب المرء في القناة سِنانا
وقال أبو العتاهية:
كلما قامت لقوم دولة
عجَّل الحَين عليهم نُكسها
وقال الأفوه الأودي المتوفى قبل الهجرة بنصف قرن:
كلـمـا ســرنا تـركنـا منـزلاً
فيه شتى من سباع الأرض غاروا
والخطأ الذي يرتكبه كتاب كثيرون أنهم يكررون «كلما» مع فعل الشرط دون أن يأتوا بجوابه، وبهذا يظل الكلام ناقصاً ولا يكتمل المعنى. قرأت لإحدى الكاتبات «كلما كان الصراع أعنف، كلما جاء النصر أروع» وقد أخطأت الكاتبة مثلها مثل كثيرين غيرها بتكرار أداة الشرط، وليستقيم كلامها كان عليها أن تحذف «كلما» الثانية.
في عام 1993 سـقطت طائرة الراحـل ياسـر عـرفات في الصحراء الليبية، ونجا يومها، وعلقـت زوجته سهى الطويل على ذلك في مقابلة تليفزيونية بالقول: كانت هذه ماسيج MESSAGE من ربنا لأبـو عـمار إنو لسـّـه عـندك قضية لازم تخدمها. نكرر القـول إننا ضد من يلجـؤون إلى الكلـمات الأجنبية بمناسـبة ودون مناسـبة، وهي ليسـت اصطلاحات لا ترجمة لها كالديمقراطية مثلاً، إنها طريـقة سـخيفة للتظاهـر بأن المتحدث مثـقـف. إحداهـن أصرت في تلفـزيون بلد شـبه بدوي على الـقـول: الميدل إيسـت، ولم تسـمع بالشـرق الأوسط، وقالت: إذا عملنا منجمنت MANAGEMENT للغذاء، وقالت: يجب أن يكون هـناك أويرنِسّAWARENESS ولم تسـمع بأنها التوعية. هلّا قام أحد بعمل أويرنس لأمثال هذه الحمقاء؟
سألتني ابنتي عندما كانت في الجامعة عن بيت مالك بن الريب:
تذكرت من يبكي علي فلم أجد
سوى السيف والرمح الرديني باكيا
وكان سؤالها عن حركة «السيف»، فقلت إنها الكسر، لأن الاسم بعد «سوى» مجرور دائماً بالإضافة، فأخبرتني أن المدرّسة قرأتها «السيفَ» بفتحة، وبررت ذلك بأن الاستثناء سبقه نفي «لم أجد» فيلغى الاستثناء وتعرب الكلمة حسب موقعها من الجملة.
تذكرت هذا عندما قرأت لأحدهم «لم يزده سوى إصراراً على الأمر» وقد اختلط عليهما الأمر، فأداة الاستثناء «إلا» يبطل عملها إذا سبقت بنفي، وتصير أداة حصر، ويعرب ما بعدها كأنها غير موجودة، قال تعالى في سورة الأعراف «فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين» فإذا سبقها نفي أو شبه نفي صارت «أداة حصر» كما ذكرنا، وقد قرئ قوله تعالى في سورة هود «ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتَك» وقرئ أيضاً «إلا امرأتُك» أما أداة الاستثناء سوى فما يأتي بعدها مجرور دائماً، سواء سبقها نفي أم لم يسبقها.
قرأت لكاتب «تدكتر» مؤخراً مقالة عنوانها «يرون القذى ويغمضون عن الجذع» ويذكرنا هذا العنوان بالحديث الشريف «يبصر أحدكم القذى في عين أخيه، ويدع الجذع في عينيه» ويذكرنا هذا الحديث بقول ينسب إلى المسيح عليه السلام «كيف ترى القشة في عين أخيك ولا ترى الخشبة في عينك؟ وترجمة قول المسيح عليه السلام أبسط، إذ تحوي مفردتين مألوفتين «القشة والخشبة»، أما عنوان المقالة المستند إلى الحديث الشريف فيحتاج إلى شرح.
تذكرنا كلمة القذى بأشهر قصائد الخنساء في رثاء أخيها صخر:
قذى بعينِك أم بالعين عُوّارُ
أم ذرّفت إذ خلت من أهلها الدارُ
ومنها البيت الشهير الذي صار شطره الثاني مثلاً:
وإن صخراً لتأتمُّ الهداة به
كأنه علم في رأسه نار
القذى: ما يقع في العين فيؤلمها أو يجعلها تدمع، ونلاحظ الشبه بين الكلمتين «قذى وأذى»، ويمكن أن يكون القذى حبة من تراب أو قشة صغيرة وما إلى ذلك، أما العوار فغمصة تمض العين، وقيل هو الرمد، وتبقى كلمة «الجذع» فإذا قرأناها بفتحتين «الجَـذَع» فإنها تعني الشاب صغير السن، ألا تذكرون قول ورقة بن نوفل لنبي الله صلى الله عليه وسلم حين بشره بأن ما نزل عليه هو الناموس الذي أنزل على موسى وعيسى عليهما السلام «ياليتني فيها جذع» وإذا قرأناها بكسر فسكون «الجـِذْع» فإنها جذع الشجرة المعروف، قال تعالى «وهزي إليك بجـِذع النخلة». ونقول بعد هذا: كم من القراء سيعرف معنى العنوان؟ وكم منهم سيعرف كيف يقرأ هذا العنوان؟ هنا كان على الكاتب أن يضبط الكلمات بالحركات، وربما كان عليه أن يذّكر في الهامش بالحديث الشريف وشرح الكلمات، والأبسط أن يأخذ قول المسيح عليه السلام.
كررت كثيراً أننا نعتب على كبار الكتاب قبل صغارهم، ونعتب على الصحف الكبرى أنها لا تولي اللغة الاهتمام الذي تستحق، ونعني باللغة هنا اللغة العالية كما سماها أخونا عارف حجاوي. قرأت لكاتب مشهور جداً في صحيفة مشهورة جداً قوله وهو يتحدث عن محمد القبنجي أشهر قراء المقام العراقي «وكان ينصح أهل الفن: لا تعتمدوا على الفن فقط، فتهلكون جوعاً» والخطأ في قوله «فتهلكون» لأن الفعل واقع في جواب الأمر، وسبقته «فاء» السببية، فيكون منصوباً «فتهلكوا» قال ناصح الدين الأرجاني:
دَعُوا الوزارةَ عنكمْ تربَحوا نصَباً
فالحبلُ في الدُّرّ ممّا ليس يَنسَلِك
وقبل هذا نقرأ قول الله تعالى في سورة الإسراء «ولا تجعلْ يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطـْها كل البسط فتقعدَ مَلوماً محسورا».
ليس من حق كل من أراد أن يخترع كلمات جديدة ويضيفها إلى المعجم، فهذا من مهام مجامع اللغة العربية، أو من كان «علّامة» في اللغة العربية، أي تجاوز مرحلة العالم، لذا استغربت من أحد الكتاب المحررين أن يكتب «وكان الرجل لين العريكة مذعانا» ولم يضف شيئاً بعدها، وكان عليه أن يضيف حرف الجر اللام ثم اسم من أو ما يذعن له، إذ نقول «أذعن له» أو «أذعن للأمر» لكن المشكلة في اختراع كلمة «مذعان» ونعرف أن وزن «مفعال» يأتي للدلالة على الكثرة، كأن تقول «كان مزواجاً مطلاقاً» أي كان يتزوج ويطلق كثيراً، ولكن اسم الفاعل من «أذعن» لم يأت على هذا الوزن، وليس في سياق ما كتب الكاتب ما يوحي بذلك، واستغربت ممن يخطئ في النحو أن يتصدى لهذه المهمة، فقد كتب «وكثيراً ما شاهده أصدقائه» ولا يمكن أن يكون الفاعل مجروراً، ولذا كان عليه القول «أصدقاؤه» وقال أيضاً «واعتادت على إهانة زوجها» وهذا من الأخطاء الشائعة البشعة، لأن فعل «اعتاد» يتعدى بنفسه وليس بحرف الجر، أما قوله فمن العامية، وكتب أيضاً جملة طويلة «وطالما نصح أصدقاء الرجل.... على هجر زوجته» وهنا خطآن: طالما يمكن أن تفيد معنى الشرط، وهو يقصد «لطالما» والثاني أنه نسي الفعل الذي بدأ به وهو «نصح» الذي لا يتعدى بحرف الجر «على» بل بحرف الجر «الباء».
بقلم : نزار عابدين
copy short url   نسخ
28/12/2016
1500