+ A
A -
إذا كان المال قوة، فالمعرفة قوة أكبر. المعرفة هي التي أرشدت الإنسان إلى اختراع المال والاعتماد عليه في قياس الثروة وتسهيل التبادل وحفظ القيمة. لكن المال بدوره لم يبخل على المعرفة. هو الذي فتح أمامها الآفاق. فبه أفتتحت مدارس وجامعات ومعامل ومولت بحوث قلبت وجه الأرض. تاريخ العالم منذ القرن السابع عشر يؤكد ذلك. ويثبت في حالة الغرب بالذات أن خروج بلدانه من ظلمات القرون الوسطى إلى استنارة الحداثة كان لإدراكها أن التراكمين الرأسمالي والمعرفي لا ينفصل الواحد منهما عن الآخر.

الرأسماليون الغربيون لم يراكموا الأموال ليعدوها كل ليلة وإنما لينفقوا منها بسخاء على تطوير المعرفة. عرفوا أن المال متى ذهب إلى البحوث سيعود إليهم أضعافا ًمضاعفة. ورجال العلم بدورهم لم يراكموا المعرفة التي توصلوا إليها بعطاءات الرأسماليين ليحجبوها عن باقي الناس وإنما لينشروها بينهم على هيئة تقنيات مبتكرة تحقق أرباحاً تضيف إلى التراكم الرأسمالي. كان هذا هو حال العلاقة بين رأس المال والمعرفة في الغرب وما يزال منذ الثورة الصناعية إلى اليوم. علاقة تفاعلية يضيف فيها الإثنان إلى بعضهما.

أما في العالم العربي فقد ولدت العلاقة بين رأس المال والمعرفة مشوهة وما تزال. والسياسة هي السبب. فقد احتكرت الدولة كل شيء. رأس المال هي التي توزعه لتحدد من يبقى فقيراً ومن يصبح غنياً. لا تقبل التراكم الرأسمالي الحر وإنما تسمح فقط بالتراكم الرأسمالي الموجه ليرسو المال الوافر في يد من تثق أنهم لن يشكلون مجالاً حيوياً مجتمعياً حراً مستقلاً. والمعرفة كذلك هي التي تسيطر عليها لأن الكثير منها قد يُفتّح العقول أكثر من اللازم. وفي ذلك تهديد لبنية الاحتكار السلطوي التي يتجاوز عمرها الألف عام.

كان لا بد من فصل التراكم الرأسمالي عن التراكم المعرفي. صحيح أن رأس المال يتراكم. لكن كأرقام وليس كدور اجتماعي يغير ذهنية الناس. كان المال يتراكم والفكر المتخلف يتراكم معه على عكس التجربة الأوروبية تماماً. وكانت المعرفة بدورها تتراكم. لكن أيضاً كأعداد. فكل عام تفتتح مدارس وجامعات وتعقد عشرات الندوات والمؤتمرات. لكنها ليست أكثر من غطاء يوفر شكل المعرفة للتباهي بأنها تنمو في منطقتنا كما تنمو لدى غيرنا. حتى الذين سمح لهم بالتراكم الرأسمالي لم يتشجعوا كأقرانهم في الغرب للإنفاق على التراكم المعرفي. لم يكن لدى غالبيتهم وعي بأهمية المعرفة. وأكثر من اقترب منهم من حقلها فعل ذلك إما بأمر الدولة أو مجاملةً لها أو كنشاط تجاري بحت.

ما يزال التراكم الرأسمالي في منطقتنا في واد والتراكم المعرفي في واد آخر. فمن بين إجمالي الصناديق السيادية العشرين الكبرى في العالم مثلاً تمثل الصناديق العربية 35.6% من قيمتها. وهذا تراكم عظيم بلا شك. لكن أكثره إما يذهب إلى سد عجز في الموازنات أو إلى الاستثمار في قطاعات عقارية وصناعية حول العالم. وهذا ليس سيئاً. لكن الأمر كان سيكون أفضل لو جرى الاستثمار في التراكم المعرفي. كانت تلك الصناديق ستحقق حصيلةً أكبر. لكن إنتاج المعرفة في كل الدول العربية لا يرقى حتى إلى مدلول كلمة «تراكم». فهي لا تترجم من الكتب مثلاً إلا خمس ما تترجمه اليونان. وبينما يصل المتوسط العالمي لعدد العلماء لكل مليون نسمة إلى 1081 فإنه في العالم العربي لا يزيد على 373.

التراكم الرأسمالي والتراكم المعرفي في العالم العربي موجودان ولا يستطيع أحد أن يشك في ذلك. لكنه تراكم بلا ترابط فعال بينهما. كما أن كلاً منهما لا يزيد عن إضافة أرقام إلى أرقام. إنهما مثل كل شيء في مجتمعات ما زالت تتسم بالشكلانية. تحب أن تكون رتوش الحداثة بارزة على وجهها ظناً بأن ذلك يعمي العيون عن الحقيقة. لكن الحقيقة ستبقى ماثلةً وهي أن من غيروا التاريخ إنما غيروه لما ربطوا التراكم الرأسمالي بالتراكم المعرفي وجعلوا ارتباطهماً حراً بعيداً عن آليات القهر والتسلط. أما من خرجوا من التاريخ فلا لشيء إلا لأنهم فعلوا العكس تماماً.

د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
28/03/2016
1427