+ A
A -
• «إن المفاوضات تراوح في مكانها» كثيراً ما نقرأ هذه العبارة عندما لا يتحقق أي تقدم في المباحثات بين طرفين أو أكثر. ويتذكر الذين خاضوا التجربة العسكرية وتلقوا تدريباً فيها صوت المدرب وهو يصرخ «مكانك راوح» ويمد عادة «النون والكاف» بمقدار أربعة حروف أو أكثر. ما الخطأ في هذا؟
أحد أشكال عدْو الحصان «الخبَب» ونقول: خبَّ الحصان خبّاً وخبباً: إذا راوح بين يديه ورجليه. لكننا لا نتحدث عن الجري بل عن الحركة في المكان دون تقدم أو تأخر. وراوَح الرجل بين جنبيه إذا تقلب من جَنْب إلى جنب، وراوَحَ بين رجليه إذا قام على إحداهما مرَّة وعلى الأَخرى مرة. وفي الحديث أَنه صلى الـلـه عليه وسلم كان يُراوح بين قدميه من طول القيام، أَي يعتمد على إِحداهما مرة وعلى الأُخرى مرة ليُوصِل الراحة إلى كلٍّ منهما، ومنه حديث ابن مسعود: أنه أبصَر رجلاً صافّاً قدميه فقال: لو راوَحَ كان أفضل. نستنتج أن الخطأ في قولنا «في مكانه أو مكانها» لأن المراوحة لا تكون إلا في المكان، فلو أننا قلنا «إن المفاوضات تراوح» لكفانا وكان قولنا مكتملاً.
• من الكلمات التي دخلت لغتنا الحديثة كلمتا «فوقية ودونية» ونستعملهما غالباً كصفة لكلمة «نظرة» فنقول: نظرة فوقية ونظرة دونية، وقد تأتيان مع فعل «تعامل أو عامل» فنقرأ: تعامل معه بفوقية، أوعامله بفوقية. ويخطئ كثيرون في استخدام الكلمتين بحيث يقصدون شيئاً ولكن ما يقولونه يعني عكسه، فمثلاً كثيراً ما نقرأ: إلى متى ننظر إلى الغرب بفوقية أو نظرة فوقية؟ أو: إن الغرب يعاملنا بدونية، وقد قرأت قريباً (وأقرأ دائماً): نظر إليه بدونية، لكن سياق الكلام يدل على أن من نظر كان ينظر إلى الآخر بكثير من التعالي، وهكذا عكس قول الكاتب المعنى. والأساس في هذا الفاعل، أي من نظر أو عامل أو تعامل، فإن كان ينظر من فوق، أي بتكبر واحتقار للآخر، فهي نظرة فوقية، وإن كان ينظر من تحت، أي ينظر أو يتعامل بصغار وانحطاط كانت نظرة أو معاملة دونية، وهكذا نقول: إن الغرب ما زال ينظر إلينا نظرة فوقية، وما زلنا حتى الآن نحس بالنقص تجاه الغرب وننظر إليه نظرة دونية ونتعامل معه بدونية.
• كثيراً ما نقرأ «ووصل إلى سدة الحكم» ونفهم أنه تولى السلطة، فما هي السُدّة؟ وما علاقتها بالحكم؟ الحقيقة أنها لا علاقة لها بالحكم أو العرش أو السلطة، إنها كقولنا: جلس على سرير الخلافة، قال شوقي عن الأمويين:
كانوا ملوكاً سريرُ الشرق تحتهمُ
هلّا سألت سرير الغرب ما كانوا
والسرير هنا ليس الذي نعرفه الآن. والسدة أيضاً لا تعني العرش أو الإيوان (كما في إيوان كسرى)، بل تعني شيئاً مختلفاً جداً، واستعاروها للتعبير عن الحكم.
السُّدَّة في كلام العرب الفِناء، وقالوا: أَمام باب الدار، وقيل: السقيفة. وسُدَّة المسجد الأَعظم: ما حوله من الرُّواق، وبعضهم يجعل السُّدَّة الباب نفسه.
• يرتبك كثير من الكتاب في مضارع فعل «نعى» ومصدره، وكثيراً ما قرأنا أو سمعنا «نعوة» وكثيراً ما قرأنا «فلان ينعي فلاناً» ونقرأ في الصحف «تنعي أسرة كذا فقيدها الغالي» والخطأ في المضارع والمصدر، فهم يعاملون الفعل مثلما يعاملون مشى يمشي، وهمى يهمي، وسرى يسري، وطوى يطوي، وعوى يعوي، وعنى يعني، وقضى يقضي، وبغى يبغي وهكذا. أما في المصدر فيعيدون الألف إلى واو على وزن عفا يعفو عفواً، وسها يسهو سهواً، وخلا يخلو خلوّاً أو خلاءً، وحشا يحشو حشواً، وزها يزهو زهواً، وهكذا. وهم في الواقع يخطئون في المضارع والمصدر، ففي المصدر نعيد الألف إلى أصلها وهو الياء، فيكون «نعياً» والنَّعْي: خَبَر الموت، وكذلك النَّعِيُّ. والنَّعْيُ والنَّعِيُّ، نَعاه يَنْعاه نعْياً ونُعْياناً، وجاء نعِيُّ فلانٍ: وهو خبر موته. قال جميل بثينة المتوفى سنة 82 للهجرة:
صدع النعِيُّ وَما كنى بجميلِ وثوى بمصرَ ثـَواءَ غيرِ قَـفُولِ
وقالوا: النَّعِيُّ الرَّجل الميِّت، أي المنعيّ والنَّعْيُ الفِعْل، والناعي: الذي يأْتي بخبر الموت، لذا يجب أن يكون: نعى ينعى، قال أبو العتاهية في القرن الثاني الهجري:
وربَّ ناعٍ نعى حيناً أَحِبّـتهُ ما زال ينعى إلى أَن قيل قد نُعِيا
وقال حافظ إبراهيم:
حتى نَعى الناعي أَبا حسنٍ فوددتُ لو كنتُ الذي يُنعى
على وزن: نأى ينأى بمعنى ابتعد، فلا وجود لينعي ولا لنعوة.
• كثيراً ما نقرأ عما يسـمى “التنزيلات” حيث يقـل ثمـن أي بضاعـة بنسـب متفاوتة، لكنها لا تزيد على 50%. والـتـنـزيلات هي الكلـمة العربـية المقـترحة لـتـرجمة DISCOUNT أو SALE وكلـمـة أوكازيـون الـفـرنســية OCCASION. ويـضعـون كلـمـات أخـرى “خـصـومـات” أو “حسـومات” أو “تخـفيضات” على جميع الأسعار، فما الصحيح وما الخطأ في هذه الكلمات كلها؟
الخصـومات جمع خصومة، وهي الجدل. ونقـول: خاصمه يُخاصِـمه خِصـاماً ومُخاصـمة. والخصـومة الاسـم من التخاصـم والاخـتـصام. وخصـمه يخصِمـه خصْـماً: غـلبه بالحجـة. وخصْـمـك الذي يخاصمـك، وجمعـه خصوم. الخصْـم لـلمفـرد المذكـر والمؤنث والاثـنـين والجمع. و«الخصـومات» خطأ كامل، فليس في اللغة فعل “خصَم” إلا بمعنى غلب.
ويقولـون «حسـومات» هـائلة، ويجب أن تكون جمع “حـسـومـة” ولكن كلـمة حسـومة غـير موجودة، وما نجده: حسمه يحسمه حسماً: قطعه. وحسـم العِرق: قـطعـه ثم كواه كي لا يسـيل دمه. فالـفعل حسم يعـني قطع، ومـنه الحسام: السيف القاطع، سُمِّي بذلك لأنه يحسم.
الحسـومة غـير موجودة في الـلغـة، والمصـدر «الحسـم» لا يجـمع، فلا يـبـقى إلا أن تكـون حســومـات جمـع حسـوم. وهي الكلـمة الوحيـدة المشـتـقـة من الجذر «حـسـم» أو «الحـسْـم» الـمذكورة في القـرآن الكريم «سخرها عليهم سبعَ ليالٍ وثمانية أيام حُسـوماً فـترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجـاز نخل خاوية» فالـليالي الحسـوم ليالي الشـؤم.
فماذا عن «التنزيلات»؟ هـل هي جمع «تنزيلة»؟ الكلمة غـير مـوجودة، فهل هي جـمع «تنزيل»؟. النزول: الحلول. وقـد نزَّلهـم، ونزل عليهم، ونـزل بهـم نزولا ومنزلاً. و»الـنُّـزُل» المنزل. وإخوتـنا المغاربة يسمون الفندق «نُزُلاً». والمنـزل والمـنـزلة: موضع النزول، والمنزلة: الرتبة، والمنزل: الدرجة. ونسـتـنتج أن اسـتعـمال كلمة “تنزيلات” خطأ ولا يبقى لدينا إلا «تخفيضات».
الخفـض ضد الرفع، نقول: خفـضه يخـفضه خـفضاً. والطـريـف أن الخفض يعني الـدَعَـة، فنقول: عـيش خافض: أي عيش طيب. وخفِّض عليك أي سهِّل. وخـفض الطائـر جـناحه: ألانـه وضـمـه إلى جنبه لـيسـكن من طـيـرانه. ونردد دائماً قول الحق عز وجل «واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربّ ارحمهما كما ربياني صغيراً». والانخـفاض: الانحطاط بعد العلـوّ.
بعد هذا كله نرى أن أقرب الكلمات إلى ما يقصدون كلمة “تخفيضات” بمعنى أنهم يُنزلون الأسـعار (إن كانوا يفعلون) من عـليائها، أما ما عداها فخطـأ كله: التـنزيلات والحسـومات والخصومات.
بقلم : نزار عابدين
copy short url   نسخ
20/12/2016
1892