+ A
A -
يسود نقاش لأكثر من ثلاثة عقود في الدوائر الاكاديمية والبحثية حول ما لحق بالعلوم الاجتماعية والإنسانية من إهمال وغفلة متعمدة في معظم دول العالم، إهمال أو غفلة مهدت إلى تهميش ممنهج في الحياة العامة وابعادها عن دوائر التأثير.
القصة باختصار أن قطاعاً عريضاً ممن يعملون ويخططون لمؤسسات الاكاديمية والبحثية والتمويلية يرون أن العلوم الاجتماعية علوم وصفية ومنتجها إما أنه يحتاج إلى فترات طويلة حتى تظهر تأثيراته أو أنه بلا تأثير مباشر في حياة الناس، وعليه فالاهتمام في العلوم الطبيعية وجعلها قبلة للطلبة والباحثين من شأنه أن يساهم بشكل كبير في تحديث المجتمعات، بالطبع هذا يرتبط أيضا ان إنتاج تلك العلوم يمكن أن يُرى في حياة الناس ويؤثر فيها بسرعة.
أحد أهم محطات الجدل الدائر مرتبط في سوق العمل، فالذين يدافعون عن أهمية العلوم الطبيعية يرفدون وجهة نظرهم بمقولة إن خريجي تخصصات العلوم بكل فروعها هم أوفر حظاً في سوق العمل لكن في المقابل خريجو العلوم الاجتماعية محدودو الفرص وقد لا يجدون فرصاً للعمل.
مثل هذه المقولة تركز على الفكرة أن سوق العمل يحتاج معلومات ومعارف فقط، وهذا ليس دقيقاً ويجب ان يتغير، إن سوق العمل في أي مجتمع يحتاج إلى من لديهم معارف لكنه في ذات الوقت يحتاج إلى أصحاب المهارات، فلو يتم التركيز على المعرفة المغلفة بالمهارات لتساوى خريجو العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية في فرص العمل بل ربما لتفوق أهل العلوم الاجتماعية والإنسانية في أهل العلوم الطبيعية.
إن تغيير التصور خطوة ضرورية لاهتمام بالعلوم الاجتماعية والإنسانية، هذا التغيير يجب أن يبدأ من حقيقة أن العلوم تزودنا في منتج يمكن أن يكون في متناول الجميع، لكنها لا يمكن أن تفسر لنا تأثيراته على الإنسان والمجتمع ولا تبعاته السلوكية والذهنية، كل هذا تجيب عليه العلوم الاجتماعية والإنسانية.
في نفس السياق تتكلم المجتمعات عن الهوية وبنائها، وهي مسألة تحتاجها كل المجتمعات ولا يمكن أن تجيب عليها العلوم الطبيعية، إن من يساعد على تشكيل الهوية هي العلوم الاجتماعية والإنسانية التي تضع سؤال التاريخ والقيم والثقافة جنباً إلى جنب لتساهم في تشكيل وعي جمعي إيجابي يتجاوز الهويات الضيقة ويبني مجتمعات مستقرة متوازنة بعيوب أقل.
إن انتقاد إنتاجية العلوم الاجتماعية وأهلها فيه اغفال إلى أهم حاجة أو متطلب للنهوض بها ألا وهو الحرية.
في العلوم الاجتماعية كلما ارتفع سقف الحرية المسؤولة، كلما استطاع المجتمع ان يوجه مشاكله عبر دراسات وتمحيص يقوم به أهل العلوم الاجتماعية والإنسانية، بهذا يمكن المربع من مثلث الخوف الذي يسود كثير من المجتمعات من العلوم الاجتماعية ومنتجها، لقد ساهم مثلث الخوف والتردد في جعل هذه العلوم سطحية بلا منتج مقنع.
وحتى يتم تجاوز هذا المثلث فإنه يتوجب الاقتراب من هذه العلوم وتوفير الفرص لخلق أجيال تحمل هذه العلوم إلى فضاءات أرحب.
العلوم الاجتماعية والإنسانية تبدو يتيمة أكثر من أي وقت مضى رغم الحاجة الماسة لها، من هنا فإن مسؤولية كبيرة تقع اليوم على من بقي عاملا في هذه العلوم في الدفاع عنها والمساهمة في استعادة هيبتها وتأثيرها في المجتمع ليس عبر الكلام بل عبر الأثر الذي تتركه في حياة الناس. البشر في هذه الفترة الزمنية يواجهون تحديات وأزمات تركتها التكنولوجيا بحيث ألقت بظلالها على الهوية والثقافة، هذه الأزمات لا يمكن تجاوزها إلا عبر بوابة العلوم الاجتماعية والإنسانية.

بقلم : محجوب الزويري
copy short url   نسخ
08/12/2016
3729