+ A
A -
نحن مشغولون عنهم، في هذه الدنيا.. لكن هم، لا ينشغلون عنا، ونحن في.. في المشرحة!
هم أناس من طول ما عايشوا الموت، أصبحوا أمواتا.
يعيشون في حضرته- في حضرة جناب الموت- يوميا، فتأدبوا بأدب ليس من آداب هذه الدنيا: أنت لا تسمع لهم حسا، ولا ترى فيهم رفيف ابتسامة، ولا لغة بينهم غير لغة النظرات التي تحوم همسا، وهم بين كفن وقطن وحنوط... والجثث.. الجثث لو تستطيع أن تتكلم، لكان قد ارتفع منها الكلام: خذوني سريعا من دنياكمو هذي.. خذوني، باطن الأرض أشرف يا.. يا عباد الله!
هل دخل أي منكم المشرحة؟
ادخلوها، ففي المشرحة، انتباهة وتذكير.
ادخلوها لتروا الموت.. وتروا أمواتا يمشون بالاحترام كله، والسكينة، والوقار، بين أموات.. وتروا، كيف أن الأموات الأحياء، يسترون الأموات، والأعين مطأطأة.. والدعاء لهم بالرحمة يتصاعد سرا، من بين الشفاه المرتعشة، وهم يقلبونهم ذات اليمين وذات الشمال، ولا.. اعتراض.. لا اعتراض من ميت، على ميت!
ادخلوها، لتشعروا بجلال الموت..وتعاينوا باحترام أمواتا أحياء، مهنتهم (معايشة الموت وستر الأموات) يوميا، أجرهم في الدنيا قليل، وهم.. هم في الآخرة، من أصحاب الكسب الذي دونه الدنيا، وما فيها!
سألتُ أحدهم- بعد أن أشرت عليه أن يخرج قليلا- كم راتبك؟
رفت ابتسامة غامضة، في زاوية فمه، وهالني أن راح يسألني، والصوت خفيض: في الدنيا أم، في الآخرة؟
انحنيتُ أمام عظمة السؤال، وحصافة السائل، ولولا أنني كنتُ أريد فعلا، أن أعرف كم يتقاضى من يسترنا، ونحن إذ ذاك لا حول نتوهمه ولا قوة- لكنتُ قد انحنيتُ (AGAIN)، واكتفيتُ بالسؤال الإجابة.
قال، وهولا يأبه لردة فعلي: أجري في الدنيا.. قليل!
لم أرد أن أسأله.. لكني سألته: وبعدين؟
رف فمه: أجري على الله!
.... ونعم بالله. وقبل أن أنبس بجملة، كان قد عاد إلى المشرحة، لا تنبس له راحة قدمين. لقد كان حافيا، وهو يدخل.. حافيا كما قد خرج.
بقلم : هاشم كرار
copy short url   نسخ
05/12/2016
1220