+ A
A -
ظواهر عدة ميزت عراق ما بعد الغزو، أهمهما الطائفية والميليشيات اللتان تلازمتا وصارت الثانية مكملة للأولى على حساب المؤسسات الوطنية الجامعة.. ومرت الميليشيات عبر خط متعرج صعودا وهبوطا بين شبه شرعية وخارج الشرعية بالنسبة إلى الحكومات المتعاقبة بعد الاحتلال. مرة كانت تصنف خارج القانون عندما تتعارض توجهاتها مع مركز القرار في بغداد مثلما حدث مع «الصحوات» التي حلت في عهد نوري المالكي رغم دورها في مواجهة الإرهاب، ومرة تتحول إلى قوة شبه رسمية عندما تحتاج الحكومة إلى قوة عسكرية موالية عقائديا لها لقمع مخالفيها مثلما حدث مع «عصائب أهل الحق». الجديد أن البرلمان العراقي يفرض بقوة الغالبية العددية، شرعية رسمية على الميليشيات المنضوية تحت اسم «الحشد الشعبي».
هذه الشرعنة لـ«الحشد الشعبي» والدفاع المستميت عن وجوده ليس لأنها قاتلت «داعش»، بل لأنها صارت الأداة الوحيدة الباقية للحفاظ على السلطة الطائفية الممسكة بقرار بغداد وامتيازاتها ونفوذها السياسي وقوانينها وأعرافها وتقاليدها. ولأن هذه السلطة تريد أن تحتمي بقوة مقاتلة ذات دم طائفي نقي ولا تريد أن يتعرض قادتها وعناصرها للمساءلة القانونية. أي بعبارة أخرى تأسيس ميليشيا تستند على عقيدة طائفية، وتقبض أموالها من موازنة الحكومة بينما تتحرك وفق أهداف فئوية تفسد التلاقي والمساواة بين كل المكونات العراقية. فمنذ تشكيل «الحشد الشعبي» كان عنوان مهمته التصدي لـ«داعش»، لكن المهمة الفعلية كانت السيطرة على مفاصل الحياة الأمنية والسياسية والاجتماعية في المجتمع.
وقبل أن ينجلي غبار المعركة في الموصل، وقبل المطالبة بحل الميليشيات بعد انهيار تنظيم «الدولة الإسلامية»، وقبل انتفاء الأسباب التي بذريعتها تأسس «الحشد»، سدد التحالف المذهبي الحاكم والراعي للميليشيات ضربته بتمرير القانون رغم أنف المعترضين ممن يفترض أنهم شركاء في الوطن. وإذا كانت المعركة العسكرية ضد التنظيم المتطرف لاتزال صعبة وقاسية، فإن المعركة السياسية التي ستلي التطهير لن تكون أقل صعوبة نظرا إلى التراكمات الثقيلة السائدة في العراق منذ ما قبل الغزو الأميركي والتي تضاعفت مرات ومرات من بعده. وهذا كان يستوجب معالجة المشكلات العالقة بحكمة وعقلانية، لاسيما أن دولا في الجوار تدعي الحرص على العراق لكنها تعمل على خنقه سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. ولهذه الدول أدواتها في الداخل العراقي سواء أكانت أحزابا أو هيئات أو تشكيلات شبه عسكرية وميليشياوية. وليس خافيا على أحد أن هذه الميليشيات تأسست بقرارات خارجية لا عراقية وتتلقى الدعم والتدريب والتجهيز والتسليح والإشراف من جهات غير عراقية. كما ليس خافيا أن قانون تشريع الميليشيات رُسم وفُصٌل وخٌطط له بنية جعل هذه الوحدات القتالية حصان طروادة للتدخل والعبث بالمنظومة الداخلية العراقية، من الجهات التي شكلت هذه الفصائل والتشكيلات ولذا بدلا من أن يعمد البرلمان المنتخب من الشعب العراقي على الحفاظ على المصلحة العراقية العليا بالتصدي لمثل هذه التشكيلات واتجاهاتها الطائفية عمد إلى ترسيخها، وبدلا من أن يحل الحشد الشعبي وكل «الحشود» المماثلة، لأن كلها طائفي الوجود والنزعة والسلوك السياسي والاجتماعي والثقافي والعسكري، عمد إلى تشريعها. العراق لا يحتاج لا إلى «حشد شعبي» ولا إلى «حشد وطني»، بل يحتاج إلى لم شمل شعبه بعيدا عن الطائفية والعرقية العنصرية والإرهاب والفساد وإعادة الاعتبار للجيش العراقي الوطني الموحد.
بقلم: أمين قمورية
copy short url   نسخ
30/11/2016
3613