+ A
A -
حين تتأمل سير الأنبياء والفلاسفة والمفكرين تلاحظ أن معظمهم اعتزل مجتمعه لفترة معينة.. عـاش بعضهم معتكفاً أو متأملاً حتى مماته بعـيداً عن هموم الدنيا ومشاغل الناس.
ورغم قناعتي بأن الوحدة صنو العبقرية، وأن العزلة من شروط المعرفة؛ أعتقد أن هناك سبباً إضافياً لتوحد الفلاسفة وعزلة المفكرين.. أعتقد أن أفكارهم تتطور وتتراكم حتى تصل لمستوى يمنعهم من الاندماج مع عامة الناس.. يصبحون مثل أذكى طالب في الفصل متفوقاً على الجميع ولكنه عاجز عن عقد صداقات حقيقية مع الجميع.. لاحظ بنفسك كيف يقل عدد الأصدقاء كلما ارتفع مستوى الإنسان العلمي والفكري والأكاديمي.. لهذا السبب تنسحب بعض النخب بالتدريج ويدخل بعضها في عزلة اختيارية (أدعوها عزلة العارفين). بعض يحرق كتبه وأوراقه قبل أن يموت كمداً، وبعض آخر لا يتوقف عن العمل والإبداع على أمل اكتشافه مستقبلاً.
والحقيقة هي أن «عزلة العارفين» حالة يمكن أن تصيبك حتى أنت (بصورة جزئية).. فـكلما زاد تخصصك أو شغفك بالشيء صعب عليك الحديث فيه أو مناقشته مع عامة الناس.. وأمر كهذا قد يدفعك للاعتقاد بأنك تعيش في مجتمع غـبي أو لا يقدر المواهب (في حين أنك تعاني من تضخم معرفي، في جانب واحد لا يعرفه معظم الناس).
لهذا السبب يـبدو بعض المفكرين يائسين أو غاضبين على مجتمعاتهم.. وأعتقد شخصياً أن البحتري مر بهذه الحالة حين قال: علي نحت القوافي من معادنها.. وليس علي إن لم تفهم البقر.. في حين أبدى صالح عبدالقدوس يأسه من نقل أفكاره للناس فقال: عـناء أن تـُفهم جاهلا.. فيحسب جهلا أنه منك أفهم!
.. غـير أن لعزلة العارفين وجهاً مقابلاً لا يعرفه المعتزلة أنفسهم..
فهم قد لا يعتزلون الناس ولكن الناس تعتزلهم.. فلأنهم مثل (أذكى طالب في الفصل) يصعب حتى لمن يريد مصادقته فهمه أو التعامل معه.. يحدث ذلك بسبب ما يدعوه علماء النفس بالعمى الذهني، أو لعنة المعرفة التي تمنع الأذكياء من طرح أفكارهم بطريقة مناسبة.. فالأشياء تصبح سهلة وبديهية بالنسبة لهم- وبالتالي- يتوقعون من عامة الناس فهمها بسهولة.. ينسون أن معارفهم ذاتها استغرقت وقتاً طويلاً لتتبلور بشكلها الحالي- وأنهم مروا بعقبات كثيرة كي يصلوا إلى ما وصلوا إليه.. هذه المشكلة نلاحظها بالذات بين أساتذة الجامعات ممن قضوا سنوات في تحصيل تخصص دقيق ثم يتوقعون من طلابهم فهمهم قبل انتهاء المحاضرة.. تلاحظها أيضا بين الكتاب الذين يستعملون أساليب غامضة ومصطلحات معقدة (ثم يتوقعون) من جميع الناس فهمها أو الشعور بمعناها مثلهم.. فـحين تعرف شيئاً بشكل متقن، يصعب عليك إدراك الصعـوبات التي تواجه من لا يعرفونه أصلا.. وحين تملك مهارة عالية في شيء معين (كبرمجة الكمبيوتر أو الحديث بلغة أجنبية) تفترض أنها بديهية وسهلة يمكن لجميع الناس تعلمها بسرعة!
فهم هذه العلاقة من شأنها جعلنا أكثر انفتاحاً مع مجتمعنا وأكثر تسامحاً مع غيرنا.
والكلام موجه لكافة الأطراف؛ مهما بلغت فجوة المعرفة أو الذكاء بيـننا.
بقلم : فهد عامر الأحمدي
copy short url   نسخ
30/11/2016
5637