+ A
A -
من يقارن كوريا الشمالية بكوريا الجنوبية بالفليبين سيجد ثلاثة نماذج تعبر عن علاقة السياسة بالشعوب حول العالم. في كوريا الشمالية «إلهاء» تام للشعب عن السياسة. فهي ممنوعة عن الشعب، لا تمارس إلا بأمر الدولة وعلى كيف الزعيم وبتوجيه من الحزب. ونتيجة إلهاء الشعب عن حقه في السياسة أصبح الكوريون الشماليون أفقر 40 مرة من جيرانهم في كوريا الجنوبية وفقاً لتقرير حديث للتليجراف البريطانية.
أما كوريا الجنوبية ففيها سياسة ومعارضة وعراك برلماني مفتوح ومناخ حر أسهم في «إلهام» الكوريين معجزتهم الاقتصادية. وتكفي الإشارة هنا إلى أن كوريا الجنوبية حققت في العام الماضي وحده فائضاً من تجارة السيارات وحدها بلغ 36 بليون دولار.
أما الفليبين فتتبع حالياً سياسات تعتمد على «إلهاب» المشاعر وتعبئة الجماهير بكلمات من نار تُجرّح أحياناً في دول أجنبية وتتوعد بشدة الملاحقين محلياً وتعد الناس بطموحات تغازل بها آذانهم ومشاعرهم.
ولا يختلف الأمر كثيراً حول العالم. فهناك من جهة سياسات «تلهي» الناس وتبعدهم عن السياسة حتى ينشأ فراغ يشغله فرد أو تحتكره قلة. سياسات تطرد الشعب من الحيز العام وتدفع كل فرد للتقوقع على ذاته. ومن جهة أخرى هناك سياسات «تلهم» الناس وتحرص على مشاركتهم. تفتح الآفاق أمامهم للعمل والكسب والإبداع والتعبير وتفهم أهمية الحيز العام وقيمة تواجد الجميع فيه. وأخيراً هناك سياسات طنانة «تلهب» الأحاسيس وتؤجج المشاعر دون أن يرتقى ما تعمله إلى مستوى ما تقوله. الأولى أو سياسات الإلهاء تعتمد على افتعال مخاطر لا وجود لها وتضخيم مشكلات صغيرة وتصدير مخاوف مفتعلة إلى الناس. أما الثانية أو سياسات الإلهام فجريئة تشجع على مواجهة الخطأ، تقبل بالنقد سواء من الذات أو من الآخرين. سياسات تبدل وتغير كلما وجدت الأفضل. والثالثة أو سياسات الإلهاب فتغرق في الحماسة الزائفة والتمجيد المفرط للذات. لا تقبل نقداً أو ترى مراجعةً طالما رأت الناس مصطفين بالملايين خلف شعاراتها تنطلي عليهم كلماتها ووعودها.
والواضح من التاريخ أن حظ الشعوب العربية من سياسات الإلهام قليل. فأكثر تجاربها من قرون وإلى اليوم كانت إما مع سياسات الإلهاء أو سياسات الإلهاب. وحتى بعد ما كان حسن الظن يصوره ربيعاً عربياً يمكن أن تنتعش بعده سياسات الإلهام ثبت من جديد كم أن المنطقة منجرفة إما صوب سياسات الإلهاء أو سياسات الإلهاب. أما السياسات الإلهائية فتشغل الناس بعيداً عن قضاياهم بأخبار ساخنة كتلك التي تغطي مثلاً حياة الفنانين والرياضيين. أو تلهيهم في محاربة مبالغ فيها لإرهاب وإن كان حقيقيا إلا أنه مضخم من أجل تأجيل أية دعوة للحرية والديمقراطية. بينما تتقن السياسات الإلهابية الدغدغة اللغوية والعبارات الطنانة التي تعد بتغيير وجه الأرض دون أن ترافقها برامج عمل منطقية ترقى لتحقيق ما يُرفع من شعارات. وقد مارست كل القوى السياسية العربية تقريباً سياسات الإلهاء والإلهاب من جماعات الإسلام السياسي إلى جماعات رجال الأعمال إلى المؤسسات العسكرية إلى القوى الطائفية والمذهبية.
وإذا كان الاعتماد على سياسات الإلهاب يرجع إلى موروث ثقافي قديم ولغة مرنة تفيد ذوي الميول الشعبوية في حشد الناس، فإن سياسات الإلهاء تطورت في رحم الغطرسة التاريخية للطبقات الحاكمة واستخفافها بمشاعر الشعوب. وبسبب تحجر المواريث الثقافية والسياسية فإن الانتقال في المنطقة العربية إلى سياسات جديدة تبتعد عن الإلهاء والإلهاب وتقترب من الإلهام لن يكون سهلاً ولا حتى منتظراً في المدى المنظور.

بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
28/11/2016
5361