+ A
A -
ما دار حديث في جمـع من الأصحاب، وما سألت أحداً مرة، ولاسـيما في مناسـبات كمناسـبة العيـد، إلا سـمعت من الجميـع تحسـراً على الماضي، وحنينـاً إلى تلك الأيـام الجميلـة، وبعد عشرين أو ثلاثين سنة قد يسأل أحد شباب أيامنا، وسيبدون الحنين إلى هذه الأيام (ستكون قد صارت الماضي) وسـيتحسـرون على جـمالها وعذوبتها وصفائهـا و«بسـاطتها» وسـيقولون لأبنائهم: أين أيامكم هذه من أيامنا؟ وأين زمنكم هذا من «الزمن الجميل» الذي عشناه؟
وعندما كنا صغاراً كان الأكبر سناً يقولون الشيء نفسه عن أيامهم، ويتحدثون عن زمنهم الجميل. كانت أمي تحدثني عن أيام طفولتها في قرية ضائعة في الجبال ثم عن أيام صباها وبعد أن تزوجت في بلدتنا (التي كانت قرية كبيرة عندها) وكأنها تتحدث عن «الفردوس المفقود» وكذلك كان الجميع يفعلون.
ما قصة الحنين إلى الماضي؟ ما قصة التشبث بالأيام التي راحت ولن تعود؟ ماذا كان في تلك الأيام لنسميها «الزمن الجميل»؟ وإذا تابعنا كلام كل جيل عن أيام طفولتهم وشبابهم فسنجد هذا الزمن الجميل مرتبطا بالماضي، بينما لا يرونه جميلاً عندما يعيشونه.
ماذا كان في تلك الأيام سوى الفقر والأمية والتخلف؟ كيف يحن إنسان إلى أيام العربات التي تجرها الخيول، ومواقد الحطب التي تملأ البيت دخاناً، والأمراض التي تفتك بالناس دون أن يجدوا دواء، وتعلم «القراءة» الذي كان حلما لا يقدر على تحقيقه إلا قلة، وقضاء الأيام في بلوغ مدينة أخرى نبلغها الآن في ساعة، كيف يكون الزمان الآن عادياً أو رديئاً ثم يصبح بعد ثلاثين سنة جميلاً؟
الواعون المدركون يقولون إنهم يبكون «البساطة» التي كانت تلف حياة الناس وعلاقاتهم الاجتماعية، و«القيم» التي كان الجميع يتمسكون بها، وهذا يعني «المصيبة» بذاتها، لأنه يعني أننا نسير في خط متنازل بسرعة مخيفة. هذا يعني أننا نفقد البساطة والقيم والبراءة، في مقابل ما نحقق من تقدم، وهذا أمر مخيف.. أن نفقد القيم في مقابل التقدم المدني.
تزداد الحياة تعقيداً يوماً بعد يوم، وندفع قيمنا وعلاقاتنا الاجتماعية وهويتنا وأصالتنا ثمناً لما نحقق من تقدم، يبكي كل جيل على زمن طفولته وشبابه.. ويراه «الزمن الجميل» والمخيف أكثر أن نتصور المستقبل- عندما سيبكي أبناء الأجيال الحالية على هذه الأيام الحاضرة لأن هذا يعني أن المستقبل الذي سيكون أفضل من الآن علمياً وتكنولوجياً، سيكون أسوأ بكثير فيما يتعلق بالهوية والأصالة والقيم. ولذا نحن بحاجة ماسة إلى أن نطوّع التقدم لا أن نكون تابعين له، وأن نتمسك بالثوابت، لا أن نترك أنفسنا كقشة في مهب الريح.
بقلم : نزار عابدين
copy short url   نسخ
21/11/2016
16527