+ A
A -
لكي يفهم المراقب السياسي الاستراتيجية الأميركية عليه أن يفهم مبدأ «الثابت والمتحول» في التـفكير الاستراتيجي وعليه كذلك أن يصغي جيدا للمعلن (التصريحات المعلنة) ويـبحث عن خفايا الكلام غير المعلن وما يمر من تحت الطاولات! انـتهت الانـتخابات الأميركية وجاء رئيس أميركي جديد إلى البـيت الأبـيض لكن هناك قاعدة تقول: «التغيـير في البـيت الأبيض لا يعكس تغيـيرا في السياسة أو الاستراتيجية الأميركية إلا ما ندر»!
الخطوط العريضة للسياسة الأميركية، التي صنعتها مؤسسات راسخة في النظام الأميركي، لن تـتأثر حتى لو كانت التصريحات الدعائية تـشي بغير ذلك!
السؤال الكبـير الذي يسيطر على المزاج السياسي العالمي هذه الأيام يقول: ماذا سيفعل الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب مع ملفات شائكة يُطلق عليها «إرث أوباما»! وهي ملفات شائكة بالفعل أغلبها ملفات خارجية تكومت بعد سنوات من البرود الأميركي بمفعول ظاهرة التردد (الإقدام والإحجام) التي صبغت السنوات الثماني العجاف من إدارة أوباما! تعريجة قصيرة على جريمة استخدام نظام الأسد للكيماوي ضد أطفال الغوطة ومقدار البرود والتردد في رد الفعل الأميركي رغم كسر «الخط الأحمر» المزعوم يعطي المراقب مثالا تاريخيا على ظاهرة سياسية ضربت المصداقية الأميركية في العمق، وغيرها كثير!
ربما أفضل مثال لفهم إشكالية الاختلاف بين تصريحات المرشح وأفعال الرئيس يكون بمراجعة تصريحات وليد فارس مستـشار ترامب حول الاتـفاق النووي مع إيران وكيف تدرجت من (هجوم كاسح) على الاتـفاق أثـناء الانـتخابات إلى (قبول مشروط) عشية إعلان وصول ترامب إلى البـيت الأبـيض! في أغسطس الماضي وصف فارس الاتـفاق النووي الإيراني بأنه «أسوأ اتـفاق في التاريخ»! لكن يوم الخميس الماضي أصبحت لهجة فارس تجاه الاتـفاق أكثر نعومة حيث قال: «الرئيس المنـتخب سيراجع الاتـفاق جيدا وسيتـشاور مع الكونغرس وسيطلب من الإيرانيين بعض التعديلات وو..»! ويعتـقد أغلب المراقبـين أن إدارة ترامب لن ترفض الاتـفاق ولكن ستعمل على تعديله قليلا وتـنفيذه لتحقيق مصالح أكبر للإدارة الأميركية وللشركات الأميركية رغم كل ما يقال!
إذا كان هذا هو موقف الرئيس ترامب ومستـشاريه من «أسوأ ملف» في إرث إدارة أوباما فلن يكون موقف إدارة ترامب حول ملف الأزمة السورية مخـتلفا! الانـتـقادات الاستـفزازية التي وجهها المرشح ترامب لإدارة أوباما وبالذات لهيلاري كلنتون بخصوص سوريا والعراق وروسيا وأوكرانيا وليبيا وغيرها كانت تصريحات لأغراض انـتـخابية، وبدءا من 20 يناير سيكون التعامل مع هذه الملفات بنفس النمطية الأميركية المعتادة ما عدا بعض التغيـيرات في الشكل (المتحول) وليس في الجوهر (الثابت)! يعتـقد أغلب المراقبين أن الاستراتيجية الأميركية تجاه سوريا ستستمر كما هي باستمرار «التـنسيق» مع الروس للقضاء على المعارضة السورية وضمان بقاء نظام الأسد حاكما على مصير من يتبقى من الشعب السوري!
التـغير الذي قد يحدث في موقف إدارة ترامب تجاه الأزمة السورية يخص «المنطقة الآمنة» شمال سوريا حيث يخـتلف موقف ترامب فعليا عن موقف الإدارة الراحلة خاصة وأن فكرة رحيل اردوغان بانـقلاب ليلي مفاجئ أصبحت من الماضي! أجمل ما في الاستراتيجية الأميركية (وهي ليست جميلة)! إنها واقعية تـنـتهج «تكتيك الاحتواء» وتملك قدرا عاليا من المرونة للتعامل مع الأحداث حسب حقيقـتها على الأرض، وهذا هو ما يصبغ موقف الإدارة الأميركية من المنطقة الآمنة قبل المحاولة الانـقلابية الفاشلة وبعدها! لكن حماسة إدارة ترامب للمنطقة الأمنة أكبر بكثير من حماسة إدارة أوباما الباردة وليس ذلك رغبة في معالجة أزمة الشعب السوري بقدر ما هي رغبة في تـخفيف ضغوط المهاجرين على القارة العجوز!
يتمثل الموقف المحرج الذي ينـتظر إدارة ترامب في كيفية التعامل مع حلفاء أميركا في المنطقة مثل الأكراد خاصة أكراد سوريا المحاربين تحت العلم الأميركي في مناطق شمال سوريا بمسمى قوات سوريا الديمقراطية! الوجود السابق للميليشيات الكردية في اللعبة السورية كان بهدف فرض واقع التـقسيم أو فدرلة سوريا لكن التدخل التركي «لخبط» الوقائع على الأرض ولخبط الاستراتيجية! قيام قوات درع الفرات بفرض تواجدها ومطاردة تـنظيم الدولة في الشمال السوري وقدرتها على تدمير الحلم الكردي بالوصول إلى عفرين، كل ذلك يفرض على إدارة ترامب تغيـيرا يحاكي الواقع الجديد ولا يخرج عن شرط حماية حلفاء أميركا القدامى والجدد!
تصرف إدارة ترامب تجاه الملفات الأخرى سيعتمد على الوقائع أكثر من التصريحات والمواقف المسبقة! على سبيل المثال التصرف حيال الأزمة العراقية سيعتمد على نـتائج الحملة على الموصل ومدى قدرة تـنظيم الدولة على الصمود أو فرض واقع جديد في العراق وسوريا! بشكل عام، الاستراتيجية الأميركية تجاه الأزمات المختلفة ثابتة والإدارة الأميركية الجديدة هي مجرد «أداة تـنـفيذ» ولا يفـترض أن تحدث تغييرات جوهرية في التوجه العام مهما كانت التصريحات مستـفزة ومخـتلفة!
د. صنهات بن بدر العتيـبي
copy short url   نسخ
15/11/2016
2842