+ A
A -
كان المغنون في العصور كلها ابتداءً من الجاهلية يحسنون اختيار الأشعار التي يغنونها، ولم يكن لديهم عاميات، بل إن بعضهم كانوا يقولون الشعر، أي إن الواحد منهم كان المؤلف والملحن والمغني وأحياناً عازف العود، أو ضارب الدف، ولم أقرأ أن أحداً منهم «لحَن» في بيت شعري أو أبيات غناها (لحن: أخطأ في النحو)، واختلف الحال في العصر الحديث، فكثيراً ما نسمع أخطاء في الغناء، بعضها مما لا يغتفر.
في قصيدة «أراك عصي الدمع» لأبي فراس الحمداني التي لحنها رياض السنباطي وغنتها أم كلثوم يقول أبو فراس:
أراك عصيَّ الدمع شيمتك الصبر أما للهوى نهْي عليك ولا أمْـرُ
بلى أنـا مشــتاق وعـندي لـوعـة ولكن مـثـلي لا يـذاع لـه سـرُّ
وجواب السؤال بصيغة النفي «بلى» إذا أردت الموافقة، فإذا قلت «نعم» فإنك تقر بما جاء في السؤال، قال تعالى «وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم، قالوا بلى» (الأعراف) ولو أنهم قالوا «نعم» لكان معنى قولهم: نعم لست بربنا. وما فعله السنباطي وأم كلثوم أنهما استبدلا بكلمة «بلى» كلمة «نعم» وافتن السنباطي في تلحين الكلمة كما شدت أم كلثوم واسمعوا الأغنية، ولكن الخطأ يبقى خطأ وإن كان الغناء أجمل.في قصيدة «الأطلال» الرائعة لحن السنباطي وغنت أم كلثوم «واثق الخطوة يمشي ملـَكاً» وهذا خطأ، لكن الغريب أن ديوان إبراهيم ناجي المنشور يحتوي على القصيدة والكلمة فيها «ملـَكاً» وما فعله الملحن والمغنية أنهما تابعا الشاعر. ليس في اللغة قديماً تعبير «واثق الخطوة» ولا وصف الخطوة بأنها «واثقة» ولكننا نفهم منها أنها الخطوة القوية، ويتعارض هذا مع وصف الحبيب بأنه «ملـَك» فالملك والملاك واحد الملائكة، وهم أجسام نورانية، بل إننا لا نتصورها تمشي على الأرض بل تطير، وكان على الشاعر أن يقول «ملِكاً» لأن الملك واثق الخطوة قويها.
للموسيقار محمد عبد الوهاب أغنية تعود إلى أوائل ثلاثينيات القرن الماضي اسمها «أعجـِبت بي» وهي من شعر مهيار الديلمي (توفي 428 هـ / 1037 م) وليس للقصيدة عنوان، على عادة الشعر في العصور القديمة، لكنهم سموا الأغنية «أعجبت بي» بناء على الكلمتين الأوليين منها:
أعجبت بي بين نادي قومها أمُّ سـعدٍ فـمـضت تسـأل بي
ومن المعروف أن «مهيار» فارسي الأصل، ولم يكن يخفي هذا بل يعتز به، بدليل قوله في هذه القصيدة:
وأبي كسـرى «على» إيـوانِه أين في الناس أب مثـل أبي
وضعنا «على» بين قوسين لأن عبد الوهاب غناها هكذا، والغريب أنها «على» أيضاً في الديوان المنشور، وتلاحظون أن هذا استتبع أن تكون «إيوانِه» لأنها مجرورة بحرف الجر، وهذا خطأ. «على» كما هو معروف حرف جر، والمعنى هنا «فوق» إيوانه، ما المشكلة؟ ليس الإيوان كالأريكة أو «السرير» كما كانوا يقولون أو العرش، إنما هو بناء، قال ياقوت الحموي في معجم البلدان إن ارتفاعه يبلغ 27 ذراعاً، فتصوروا كسرى يجلس فوق بناء يبلغ نحو 18 متراً، والمنطقي والمعقول أن تكون الكلمة فعل «علا يعلو» أي ارتفع يرتفع، وتكون «إيوانُه» وليس «إيوانِه».
ما من شاعر لحن الملحنون وغنى المغنون من شعره بعد أحمد شوقي من ينافس نزار قباني في عدد القصائد المغناة، ولعله تفوق على شوقي، ولكن نزار قباني لم يكن يلتزم بقواعد المعجم العربي واللغة العربية. في قصيدة «ماذا أقول له» التي لحنها محمد عبد الوهاب وغنتها نجاة تقول:
ماذا أقـول لـه لو جاء يسـألني إن كنت أكرهه أو كنت أهواه
والخطأ من الشاعر وليس من الملحن والمغنية، فالتعبير «لو جاء يسألني» من العامية، والمقصود «إذا جاء يسألني» لأن «لو» حرف امتناع لامتناع، ولا ترد إلا مع الماضي، ويكون جوابها مقترناً دائماً بـ«ل» كأن تقول: لو عرف العرب مصالحهم لتوحدوا. ويقول الشاعر في القصيدة نفسها:
أما كسرنا كؤوس الحب من زمن
فـكيف نـبكي عـلى كأس كسـرناه
وتعبير «من زمن ومن زمان» تعبير عامي، والخطأ الثاني في هذا البيت «كسرناه» لأن الكأس في اللغة العربية مؤنثة دائماً وليست من الكلمات التي يجوز فيها التذكير والتأنيث لكن الشاعر ذكـّرها.
وفي قصيدة «قارئة الفنجان» التي لحنها محمد الموجي فأبدع، وغناها عبد الحليم حافظ يقول نزار قباني:
لكن سماءَك ممطرة، وطريقُك مسدودٌ مسدودْ
ما الذي جعلها «وطريقُك»؟ أليس حرف «الواو» حرف عطف؟ على ماذا عطف «طريقُك»؟ أليست معطوفة على «سماءَك» ويجب أن تكون منصوبة مثلها «طريقًك»؟
ثمة أبيات يغنيها صباح فخري منذ عقود من السنين، وهي ليست لملحن ما، لأنها تغنى على طريق الموال غير الخاضع لأي لحن إلا براعة المغني، وقد أبدع صباح فخري في غنائها مستفيداً من صوته الفريد الرائع وثقافته الموسيقية الواسعة، وغنى الأبيات بعده كثيرون، وما زال الهواة يغنونها. والأبيات بديعة الجمال قبل الغناء وهي للبهاء زهير (581– 656 هـ / 1185– 1258 م) وهي الأبيات الأول والثاني والخامس من قصيدة بلغت 14 بيتاً:
حبيبي على الدنيا إِذا غِبتَ وَحشةٌ
فيا قـمراً قـل لي متى أنت طالـعُ
لقـد فـنِيت روحي عـليـك صَبابـةً
فما أنت يا روحي العزيزةَ صانعُ
وغـيـرُك إن وافى فـما أنـا ناظـرٌ
إلـيـهِ، وإن نـادى فـمـا أنـا سـامِعُ
والخطأ الذي ارتكبه صباح فخري في البيت الثاني، فقد غنى وتبعه الآخرون «يا روحَ العزيزةِ» وصار الكلام بلا معنى، فما وضع «العزيزة» هنا؟ لقد كانت في القصيدة صفة «يا روحي العزيزةَ» لموصوف هو المنادى، أما في الغناء فلا معنى لها.
وغنى صباح فخري أيضاً أربعة أبيات جميلة، الأول والثاني منها من قصيدة «البوصيري» المعروفة باسم «البردة» وهي في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أكثر ما عارضها الشعراء ونسجوا على منوالها وشطـّروها وخمـّسوها، وأشهر معارضاتها في زمننا قصيدة أحمد شوقي «نهج البردة»، والبيتان الثالث والرابع في غناء صباح فخري من إحدى هذه المعارضات وهي للشاعر بهاء الدين الرواس، يقول بيتا البوصيري وهما الثامن والخامس من القصيدة:
نعم سرى طيفُ مَن أهـوى فأرّقـني
والـحــب يـعـتـرض الـلذّاتِ بـالألـمِ
لولا الهوى لم تُرِق دمعاً على طلل
ولا أرِقـت لـذكــر الـبــان والعـلـمِ
وقد أخطأ بعض الذين قلدوا صباح فخري بغناء الأبيات، ومنهم نجم أراب آيدول، إذ غنى البيت الأول:
نعم سرى طيفُ مَن أهـواه فأرّقـني
والـحــبُ يـعـتـرض الـلذّاتَ بـالألـمِ
ولم ينتبهوا إلى أن اللذات ملحقة بجمع المؤنث السالم، وبالتالي تنصب بالكسرة عوضاً عن الفتحة، ولم ينتبهوا إلى أنهم بتغيير «أهوى» إلى «أهواه» كسروا البيت عروضياً كسراً شنيعاً.
لماذا لا يستعين المغنون بذوي الاختصاص لتجنب هذه الأخطاء البشعة؟
بقلم : نزار عابدين
copy short url   نسخ
10/11/2016
2280