+ A
A -
«لا أسلوب مع اليقين» هذا ما يقوله إميل سيوران الفيلسوف الروماني.. تذكرت هذه المقولة- دائما ما أتذكرها- عند القراءة لكافكا. لا أقصد أعماله الأدبية فقط، إنما أيضا في يومياته، ورسائله الخاصة: رسائله إلى عشيقته ميلينا، ولصديقه ماكس.. ثم إلى ناشره فيما بعد؛ وبالإضافة إلى كل ما نجده من عبقرية وفن ومتعة ونبوغ، وبالإضافة أيضا لكل تلك الأمور التي تتعلق بالكاتب نفسه، والتي درسها وتناولها النقاد وكتاب سيرته الذاتية، من السوداوية، والعبث، وشعوره المر بالغرابة، وأنه يجد نفسه دخيلا، مع كل ما يستدعيه هذا الشعور من عدم الارتياح والانفصال القسري عن محيطه الاجتماعي، يقول عن نفسه: «أشعر أني دخيل». بالإضافة إلى كل هذا، نجد حالة لم يتم الانتباه لها ولا دراستها تظهر جلية في كل تلك الأعمال واليوميات والرسائل، حالة: عدم الثقة والتردد المرضية. متردد بشكل بالغ، ولديه إحساس مفرط بعدم التيقن، لا من صواب، ولا من جودة ما يقوم به. إذ لا يمكن تفسير رغبته وإصراره على حرق أعماله حال الانتهاء منها وقبل نشرها.. «يقال إن كافكا قد دمر أغلب ما كتبه بين 1904 و1908»، من هذه الكتب: وصف كفاح نحو 50 صفحة، وبعض فصول رواية المفقود، ويوميات رحلات. هو يعبر بوضوح عن هذا الأمر في رسالته إلى ناشره «إذا أعدت المخطوطة إليّ سأكون شاكرا جدا لك!»... أو وصيته بذلك لصديقه ماكس «العزيز ماكس، رجائي الأخير: كل ما تجده في إرثي (أعني في دراج الكتب وخزانة الملابس وعلى مكتبتي في البيت وفي المكتب أو في أي مكان آخر) من يوميات ومسودات ورسائل، سواء كانت مني أو من غيري وتخطيطات وغير ذلك ينبغي حرقه بلا استثناء دون أن تقرأه، وكذلك كل ما تركته لك ولغيرك من مخطوطات وكتابات، يجب أن يُحرق وكالة عني. أما الرسائل التي لا يتم تسليمها لك فأرجو أن تطلب باسمي ممن يمتلكها أن يلزم نفسه بحرقها». هذه الرسالة الوصية، تعبير واضح عن رغبة حقيقية في حرق كامل تركته الأدبية غير المطبوعة، لأنه لم ينفك عن التردد حيال أهميتها، لذا يقرر التخلي عنها، محو عار أن تنسب له مثل هذه التفاهة كما ينظر لها، إذا لم يكن مثل هذا الفعل تعبيرا عن التردد وعدم اليقين، والإحساس الدفين بأنه غير جدير ولا مؤهل للكتابة، فبماذا يوصف إذا؟!.. هناك ملاحظة أخرى لتردد كافكا، غير مكتوبة لكنها ظاهرة، ويمكن قراءتها من خلال هذه الملاحظة في يومياته التي استمر في كتابتها منذ عام 1910 إلى آخر يوم في حياته، هذه الملاحظة تتعلق بقصة: الحكم، والتي كتبها ضمن اليوميات، إذ يقول عن كتابتها: هذه القصة الحكم كتبتها دفعة واحدة ليلة 22-23، من الساعة العاشرة مساء حتى الساعة السادسة صباحا، تجمدت ساقاي حتى إنه أصبح من العسير عليّ أن أسحبهما من الطاولة، المجهود الهائل والغبطة العامرة، كيف تطورت القصة أمامي، كيف تقدمت في فيضان عدة مرات في هذه الليلة حملت ثقلي على ظهري. كيف يمكن أن يقال كل شيء، كيف تعد نار متأججة لكل الخواطر وأكثرها غرابة، تحترق فيها وتنبعث..»، قد يتم فهم هذه اليومية على أنها لحظة إلهام هائلة مر بها الكاتب، وهذا هو السبب الذي دفعه لإنجاز هذه القصة في ليلة واحدة، لكن لو نظرنا إلى الأمر من خلال فهم شخصية كافكا المترددة وغير المتيقنة، كان الدافع السري لهذا الفعل الكتابي المتشنج هو خشيته من أن يفسد تردده هذا العمل، والذي بالمناسبة كان يقدره جدا لدرجة أنه أتلف أغلب ما كتب قبله، هو يعرف أن هذه القصة سوف تتلف، سوف يتلفها لو أجل كتابتها أو جزءا منها إلى يوم آخر. من كل هذا يتضح أن كافكا كان يعيش ترددا مزمنا يتعلق في شكه العميق وعدم يقينه من جودة، ولا جدوى، ما يقوم به.. لم يتصور أن العالم سوف يحتفي بأعماله بهذا القدر، لدرجة أن يكتب عنه، بالإضافة إلى الكتب والرسائل الجامعية في كل لغات الأرض، سوف يكتب عنه ما يقارب المائة مقالة جديدة كل عام منذ وفاته، وأن هذه المقالة سوف تضاف إليها.

بقلم : ضيف فهد
copy short url   نسخ
06/11/2016
2660