+ A
A -
ربما هي المرة الأولى، التي يجد فيها المُفاوض الحُكومي السودانيُّ نفسَه في وضع هو الأقرب لخيارات ومواقف الوسطاء!

في أغلب جولات التفاوض الساعية لتحقيق السلام وإيقاف الحرب في السودان منذ أيام مبادئ الإيقاد، وعودة دكتور غازي صلاح الدين العاصفة من نيروبي، في أوائل التسعينيات، كان الوفد الحكومي في التفاوض دائماً هو الذي يعترض ويحتجُّ وينسحب؛ بينما الطرف الآخر يجد في ذلك فرصة ومساحة لتشكيل خطابات إعلامية مُضادَّة تُظهر الحكومة السودانية متطرفةً ومتشددةً وغير حريصة على تحقيق السلام، ومستفيدةً من استمرار الحرب.

أعتقد أن أكثر ما يميز الوفد المفاوض الحكومي بقيادة الباشمهندس إبراهيم محمود، في الجولات الأخيرة، أنه يمتلك رؤية واضحة ومواقف محددة بدقة لا تقبل المُغامرات ولا التنازلات التكتيكية.

في كل المرات السابقة، كان الوسطاء الأفارقة والأوروبيون موضع اتهام واشتباه دائم من قبل حكومة الرئيس البشير، بأنهم منحازون، بل متواطئون مع المجموعات الحاملة للسلاح.

إن يوقع الوفد الحكومي على خريطة الطريق مع رئيس الآلية الإفريقية ثامبو إمبيكي، مع غياب الأطراف المعارضة وامتناعها عن التوقيع؛ فهذا يُحسب لصالح الحكومة السودانية، ويُسجَّل ضد المجموعات المعارضة والحاملة للسلاح.

من المؤكد أن إمبيكي ومن معه، وصلوا لقناعة قاطعة، بأن المعارضين والمُسلَّحين لا يملكون رؤية واضحة، لكيفية إنهاء الحرب والانتقال للعمل السياسي السلمي، أو ربما لا يرغبون في ذلك، كما أنهم ليسوا على موقف مُشترك في كثير من القضايا؛ لذا يُفضِّلون الثبات السلبي وعدم الحركة، حتى لا ينفرط عقدهم ويتبعثر شملهم مع التقدم نحو مواقف جديدة.

مواقف الرفض والامتناع هي مواقف سهلة وآمنة، تتوفر لها كثير من التبريرات والأعذار.. يكفي أن يكون القليل منها موضوعيا ومقبولا، وأكثر من ذلك مختلقاٌ ومتوهمٌا ومفتعلا.

قناعتي أن حملة السلاح وفي مقدمتهم عرمان ومناوي وعبدالواحد لا يزالون يحبسون أنفسهم وتصوراتهم في نماذج نيفاشا وأبوجا، فرِهانُهم الأكبر على دعم متوَّهم يُمكن أن يأتي إليهم من ما كان يسمى بالمجتمع الدولي في مقابل ضغوطات يمكن أن تمارس على الجانب الحكومي وضمانات تقدم حال الاتفاق.

هذه صفحة قديمة طُوِيَتْ غير قابلة للتكرار والإعادة.. نيفاشا لن تعود مرة أخرى، فالمعادلة التي أنتجتها لم تعد موجودة، أهمها أن من في البيت الأبيض هو باراك أوباما، وهو ذو سياسة انكفائية وليس جورج دبليو بوش صاحب النزوع التوسعي وفلسفة الذهاب إلى المخاطر بدلاً عن انتظارها.

وأبوجا غير قابلة للتكرار، فثامبو إمبيكي بات يعرف الكثير وغير قابل لأن يخدع بالمزاعم والادعاءات، ليس هو روبرت زوليك ذلك المبعوث الأميركي المُتعجرف، الذي كان يكتفي بمعرفة الخطوط العريضة ويجهل التفاصيل.

قضايا إفريقيا لم تعد ذات أولوية في الأجندة الغربية، ولا يوجد لها سوق هناك. بات الانشغال الأكبر بملفات الإرهاب واللاجئين والعمليات الانتحارية في قلب المدن والعواصم الأوروبية، وهي ملفات مقدمة على مشاريع السلام في إفريقيا وتعزيز الديمقراطية.

كما أن ما حدث في دولة الجنوب بعد تحقيق الانفصال لا يُشجِّع على إنتاج تجارب أخرى، لا مؤازرة قيادات مُغامرة جديدة، فالحركات المسلحة ذات الأجندة الثورية لم تعد موثوق بها، ولا يمكن الاطمئنان لها في الحاضر أو الرهان عليها في المستقبل.

سيحتاج قادة الحركات المسلحة لوقت طويل ومزيد من التجارب المريرة لإدراك أن انعزالهم عن الشعب السوداني وابتعادهم عن العمل السياسي وسط الجماهير ورهانهم على القوى الأجنبية رهان خاسر لن يجنوا منه سوى الهزائم الموجعة والإحباطات المتكررة.

بقلم : ضياء الدين بلال

copy short url   نسخ
27/03/2016
993