+ A
A -
شخصيات قديرة كانت بيننا ثم رحلت تاركةً أعمالاً ومواقف مشرفة جعلتها جديرة بالتكريم بعد أن فاضت أرواحها إلى بارئها. وتأبين القامات بعد الممات من التصرفات المحمودة والسلوكيات القويمة لما في ذلك من معاني الوفاء والإعتراف بالجميل وتذكير الأحياء بقدوات لا تنسى. لكن هذا لا ينفي أن ثمة تقصير سبق في حقهم لأنهم كانوا أولى بالتكريم في حياتهم. لكن في عالمنا العربي غالباً ما نلتفت إلى تكريم القامات فقط بعد الممات ونغفل حتى عن تذكرهم وهم ما يزالون على قيد الحياة.
لكن ما العمل وذلك جزء من تقصير الأحياء في حق أحياء لا نعرف قيمتهم إلا بعد أن يرحلوا. ولعله أيضاً ناتج عن الطبيعة النادرة لتلك القامات التي كانت تتعفف عن الشهرة ولا تسعى إلى المديح ولا تنتظر التكريم أو رد الجميل على ما قدموه.
ومن بين قامات رفيعة افتقدناها مؤخراً الأستاذ الدكتور محمد السيد سليم أستاذ العلوم السياسية المرموق بجامعة القاهرة ورائد الدراسات الآسيوية في مصر والمنطقة العربية. وأنا هنا لا أكتب عنه نقلاً عن أحد وإنما اعتماداً على معايشةً له عن قرب ولفترة زمنية طويلة. لقد كان أستاذي الذي تعلمت على يديه نظريات تحليل السياسة الخارجية وأصول فهم العلاقات الدولية، وله فيها كتب قيمة لا تخلو منها مكتبة جامعية عربية. كانت له هيبة واضحة ووقاراً لافتاً. شعره الأبيض حتى وهو في عز شبابه وقامته الفارعة ومشيته الجادة وصبره غير المحدود ومعلوماته الغزيرة ولغته السليمة وطريقته اللافتة في تبسيط المعقد وتمكنه من فنون المحاججة، كلها جعلت منه نموذجاً للاستاذ والمثقف. كان شعلة علمية ومعرفية براقة منذ عودته بالدكتوراة من كندا في 1979.
ثم دارت الأيام وعدت بدوري بالدكتوراة من الولايات المتحدة في 1996 لأجد أستاذي القدير يمد يديه إليّ بتواضع شديد طالباً مني أن أكون ذراعه الأيمن في مركز الدراسات الآسيوية بالجامعة والذي أسسه وكان أول مديراً له وظل إلى أن تركه إلى الإمارات ثم الكويت الدينامو الحقيقي وراء نجاحاته. وكم كان العمل معه ممتعاً ومفيداً ومثيراً. كان لا يهاب مسؤولاً ولا يخشى فاسداً. يعرض رأيه وخلاصة دراساته العميقة على مسؤولين لطالما حذرهم من إهمال آسيا بعد أن أهملوا أفريقيا. وكان دائماً في كل جولاتنا الآسيوية سفيراً فوق الوصف يفوق حضوره كل الموجودين في قاعات احتشد فيها أكاديميون ودبلوماسيون وإعلاميون وسياسيون. لم يكن يكل أو يمل في الدفاع عن العروبة ومصر ويتصدى بشجاعة للإختراقات الإسرائيلية التي تحاول تسميم صورة العرب في العقل الآسيوي. وقد شهدت ذلك بنفسي أكثر من مرة إحداها في مؤتمر دولي حاشد حضرناه معاً في نيودلهي.
كان رحمه الله غزير الإنتاج. ترك مؤلفات عديدة لا تقدر بثمن في الشؤون الآسيوية وأصول وتاريخ العلاقات الدولية وتحليل السياسات الخارجية وكانت له اهتمامات واسعة بإيران وتركيا وحوض البحر المتوسط باعتبارها دوائر تحيط بالقلب العربي ولا يمكن إهمالها. كما أبدع في دراسة العلاقات بين الدول الإسلامية وانتهى قبل وفاته بأيام من مؤلف لم ير النور بعد عن الفكر السياسي الإسلامي كتبه ومحنة المرض تفتك به. لم يرد أن يودع العالم إلا وهو يعطي زهرة من زهرات عطاءاته الفكرية التي يجب أن تلتفت إليها مراكز البحوث والحكومات العربية.
لقد كان سباقاً في رصد وقراءة التحولات الكونية الكبرى وكان يدعو المعنيين بشتى الطرق إلى الحذر منها ووضع استراتيجيات مبكرة لمواجهتها. اذكر فقط معايشتي لمحاولاته المضنية إفهام القائمين بإدارة العلاقات المصرية الخارجية في أواخر تسعينيات القرن الماضي بمدى أهمية طريق الحرير وطريق القطب الشمالي وما يتعين على مصر أن تقوم به بالتعاون مع الدول العربية. ولكن للأسف بدلاً من الاستفادة من أطروحاته وخبراته أنفذت البيروقراطية تصاريفها في المركز البحثي الناجح الذي أسسه ليُقضي عليه قضاءً مبرماً. وكم حزن الرجل كثيراً على هدم صرح تعب فيه محاولاً أن يجعل العلم أساساً لبناء السياسة في ظل تحولات كونية لا ترحم.
رحمة الله على هذه القامة العلمية الرفيعة التي عاشت في هدوء وماتت في صمت وأنتجت بغزارة كنوزاً من المعرفة أحرى بأن تُجمع ويعاد نشرها.

بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
31/10/2016
4914