+ A
A -
سألتني ابنتي بالأمس القريب هل يوجد حب حقيقي هذه الأيام؟ بالطبع يوجد! كانت إجابتي سريعة وعن قناعة ليس هناك ما يبررها أو يؤكدها في أرض الواقع المعاش، فالحياة بدون حب لا يمكن أن تعاش، وفي تراثنا القديم فقط في التراث، قصص قد لا يصدقها الكثيرون أو يعتبرونها ضربا من الخيال البعيد عن الواقع، ومن أجمل القصص التي قرأتها، قصة وقعت في بغداد، وبطلتها جارية تدعى «بهيرة» عاشت في كنف سيدها الثري «سليمان» فترة من الزمن، أحبته وأحبها، وشغله هذا الحب عن تجارته، وكانت النتيجة أن تبددت الثروة واضطر لبيع كل ما يملك، وبعد ما كان يعيش في قصر وحوله الخدم والحشم يأمر فيطاع، بات معوزا لا يجد قوت يومه، ذهب المال وذهب الأصدقاء والخلان معه، وأشفق العاشق على محبوبته من الفقر والجوع والمهانة فعرضها للبيع متجاهلا دموعها ورغبتها الصادقة في مشاطرته العيش في السراء والضراء، فتقدم إلى شرائها تاجر سمع عن إتقانها العزف والغناء، بالإضافة إلى ثقافتها الواسعة في امور كثيرة، وبعد فترة ضاق بها ذرعا، فقلبها مغلق ومزاجها كئيب، وقرر أن يبيعها لمن يتحمل عزلتها وحزنها وانفصالها عن العالم والبشر، وكان المشتري هذه المرة هو الخليفة «هارون الرشيد» الذي أعجب بصوت الجارية وبذكائها وعلمها الغزير، فأفرد لها جناحا خاصا وميزها عن غيرها من الجواري، ومع كل هذا الترف والتدليل لم تنس الرجل الذي ملك قلبها، كما لم يستطع هو نسيانها، وكاد تفكيره فيها يدفعه إلى الجنون، بل إنه جن فعلا حين تسلل إلى مخدعها ذات ليلة ليحظى بنظرة عن قرب إلى أحب الوجوه إلى نفسه، ناسيا أو متانسيا أن القصر يحفل بالجواسيس الذين لا تفوتهم واردة ولا شاردة، وقد نقل هولاء الرقباء الخبر إلى الخليفة، الذي أوعز إليهم بالقبض عليه، ثم أصدر أمرا بقطع رقبته، واستثنى الجارية لشدة إعجابه بها، لكن بهيرة لم تستسلم لليأس، ترجت وبكت وحكت قصتها للخليفة عسى أن يلين قلبه ويصفح دون جدوى، وقبل تنفيذ الحكم بساعات وقفت أمام الخليفة وطلبت منه طلبا واحدا فقط، طلبا واحدا لا غير.. وهو ألا يتم قتله قبل أن تراه، ووجد الخليفة هذا الطلب هينا فوعدها بقوله: «لك ذلك» وأرسل يطلب إحضار «سليمان» قبل أن يصبح تحت رحمة السياف، فلما خرج الحاجب ألقت بهيرة نظرة عميقة على كل ما يحيط بها، ثم أدخلت إصبعيها في عينيها واقتلعت بهما هاتين العينين، وقفز الخليفة مرعوبا وهو يصيح: ويحك ماذا فعلت بنفسك؟! فردت وهي تنزف دما ودموعا «فديت من أحب بعيني يا مولاي، ألم تعدني بألا تقتله حتى أراه.. الآن لا أراه ولا تقتله» ولم يجد «الرشيد» بدا بعد ما حدث أمامه سوى أن يتكفل بالعاشقين اللذين هان على أحدهما الموت، وافتدى الآخر عينيه من أجل من يحب.

بقلم : وداد الكواري
copy short url   نسخ
23/10/2016
1787