+ A
A -
ربما يأتي هذا المقال متأخرا بعض الشيء، لكن مضمونه يبقى صالحا لأنه يدور حول مؤتمر لم تعد هناك ضرورة لانعقاده كل أربع سنوات وتكبد المصاريف الباهظة لإتمامه وسفر الوفود من أقاصي الأرض لحضوره.. والمقصود هنا هو قمم حركة عدم الانحياز التي عقدت اجتماعها الـ17 مؤخرا في جزيرة مرغريتا الفنزويلية وليس في عاصمة البلد المضيف كما جرت العادة.
والقول إن القمة المذكورة لم تعد لها ضرورة قول تدعمه معطيات كثيرة. فحركة عدم الانحياز، التي ولدت فكرتها إبتداء في قمة باندونغ سنة 1955 قبل أن يفعلها الثلاثي «نهرو- تيتو- عبدالناصر» عبر الدعوة إلى انعقاد القمة الأولى في 1961 ببلغراد اليوغسلافية، صارت جثة هامدة منذ انتهاء الحرب الباردة، لكن بعض الدول المستفيدة منها لا تريد استصدار شهادة وفاتها.. ثم إن جل الدول المتحمسة لبقائها والناشطة في إطارها لم تعد لها مصداقية بسبب خرقها المتكرر لمبادئ الحركة، ناهيك عن عدم قدرة الأعضاء على التأثير في الأوضاع والأزمات الدولية ككتلة واحدة. ولكي نوضح الفكرة بصورة أدق، دعونا نقارن بين القمة الأولى والقمة الأخيرة.
وقت انعقاد القمة الأولى كانت كل الدول الأعضاء حاضرة وممثلة بقادتها الكبار من زعماء العالم الثالث، وكانت الصحف والمجلات تخصص ملاحق مصورة لتسليط الضوء على مجرياتها، كما كان الكبار في موسكو وواشنطون يراقبون جلساتها ويتحسبون لما سيصدر عنها.. وحينما قررت القمة إرسال وفدين أحدهما إلى موسكو بقيادة الزعيم الهندي نهرو، والآخر إلى واشنطون بقيادة الرئيس الاندونيسي سوكارنو لمقابلة الزعيمين السوفياتي والأميركي (خروتشوف وكينيدي) ووضعهما في صورة ما اتخذ من قرارات، تم استقبالهما هناك على أعلى المستويات في حدث جندت وسائل الإعلام العالمية كل طاقاتها لتغطيته.
أما القمة الأخيرة فقد مرت مرور الكرام دون أن يشعر بها أحد، بل لم يحضرها من القادة سوى زعماء عشر دول من أصل 120 دولة عضو في الحركة، كان جلهم من أصحاب الخطابات الثورية التي أكل عليها الدهر وشرب.
ثم قارن عزيزي القارئ بين المبادئ التي قامت عليها الحركة- مثل الالتزام بالقوانين والمواثيق الدولية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء والعمل على تعزيز الأمن والسلم الدوليين واحترام سيادة الدول وسلامة أراضيها وحقها في الدفاع عن نفسها وعدم استخدام الأحلاف الدفاعية الجماعية لتحقيق مصالح خاصة لأي من القوى العظمى- وبين السياسات التي تنتهجها الدول الناشطة حاليا في الحركة.. وهنا تبرز إيران كمثال صارخ لعضو الحركة الذي خرق ويخرق بشكل متكرر وعلى رؤوس الأشهاد المبادئ التي أتينا على ذكرها، وعلى رأسها التدخل في شؤون جيرانه الداخلية والتشجيع على الأعمال الإرهابية وإثارة القلاقل والفتن، على نحو ما تفعله طهران بحق دول مؤسسة للحركة مثل السعودية والعراق ولبنان وسوريا واليمن. هذا علما بأن إيران لم تنضم إلى الحركة إلا بعد مرور 18 سنة على تأسيسها، أي بعد سقوط نظام الشاه الذي كان حكام إيران الحاليين يأخذون عليه تحالفه مع الإمبريالية الغربية وخرقه لمبادئ العدالة والسلام العالمي وحقوق الإنسان فيما هم يكررون اليوم ما استنكروه سابقا.
لقد جرت مياه كثيرة منذ قمة الحركة الأولى قبل أكثر من نصف قرن، ورحل الآباء المؤسسون حسرة أو موتا أو اغتيالا أو خروجا من السلطة تحت أعقاب بنادق ورشاشات العسكر وحل مكانهم زعماء تنقصهم الشرعية التاريخية أو قادة مهووسون بالظلم وإشعال الحرائق والفتن وخرق الأعراف والقوانين الدولية.
لذا لم يكن مستغربا أن يغيب عن قمة مارغريتا زعيم الديمقراطية الوحيدة التي ساهمت في تأسيس الحركة أي الهند، مكررة ما فعلته في القمة السابقة التي انعقدت في طهران في 2012.
فحسنا فعلت نيودلهي التي اختارت «تعدد الانحياز» بدلا من «عدم الانحياز» بحسب تعبير مراسلة صحيفة اللوموند الفرنسية «جوليان بويسو»، وحسنا فعلت بعض الدول العربية حينما تمثلت في القمة الأخيرة بوفود على أدنى المستويات.
بقلم د- عبدالله المدني
copy short url   نسخ
16/10/2016
2224