+ A
A -
لم تحاول تلك السيدة، أن تخفي الشعيرات البيضاء - مثلها مثل أي امرأة. لكنها ابتسمت بينها وبين نفسها، وهي تقول: «هذه شهادة، من تركيبتي الداخلية، تقول إنني- مثل أي ثمرة برية- قد نضجتُ!
لو لم تكن، ايلين مارغريت، قد نضجت بالفعل، لما كانت «أممية». ولما كانت في «الأمم» مبعوثة لحقوق الإنسان، في دولة يعيش فيها الإنسان، أسوأ أنواع الانتهاكات: انتهاك حقه في أن يتنفس!
تذكرُ، أول ما دخلت الدولة المنفصلة عن السودان، وحملت معها ذات أمراضه «جنوب السودان»... أممية لحقوق الإنسان، كان شعرها يزهو بشعيرات بيضاء.
حينها وجدت أرتالا من الانتهاكات... انتهاكات توقف شعر الرأس.. وتملأه بياضا.
أشفقتُ على «الأممية» إيلين مارغريت، وهي في الأرض التي تتغطى بالدم، والثأر القبلي، والانتقام حد غرس السكاكين الطوال في عيون أبقار الخصوم!
في زمان الهول العظيم، يصيرُ مجرد الإشفاق، ما يشبه التواطؤ، وأنت ترى الرؤوس تشيبُ.
لم أبتسم، على الإطلاق- وأنا في مقام ذلك الإحساس الذي لم يعد له من ثمة لون أو طعم أو رائحة- وأنا أنظرُ من البعيد، إلى إيلين، وهي تغرسُ عينيها المتورمتين، في التقارير التي تتحدثُ عن فظيعة، من وراء فظيعة، دونها كل الفظائع التي مرت عليها، في مناطق متفرقة من العالم!
لئن تقرأ عن الفظائع، هو أن تصير كمن رأى.
ابيضّ رأس إيلين كله. صار مثل كل الرؤوس التي شافت ما يجري بين المتخاصمين في الأحراش، وفي القرى، وحتى في المدن، بما فيها تلك التي كانت عروس الجنوب.. ملهمة حناجر المغنين مدة في الصوت، وسجدة، وعذوبة!
الفظائع، على قدر من يشيل، وإيلين التي أثقلت كاهلها الفظائع- في زمن الشفقة الخائبة- لم تعد قادرة على الابتسام، حتى بينها وبين نفسها: لقد أصبحت مثل ثمرة برية.. نضجت، وتغضنت.. والفظائع تغضن، وترسم التجاعيد!
أدخلت إيلين أصبعها في فمها، وأفرغت كل ما في أمعائها. كانت المسكينة تقرأ في تقرير يثيرُ الغثيان. كان التقريرُ يحكي عن اغتصاب للنساء بالجملة من جانب جنود حكوميين. كان يحكي: انتزع جنود طفلا من ثدي أمه.. رموه بعيدا، وراحوا يغتصبون الأم، بالتتابع، وثديها كان لا يزال ينزُّ حليبا.. والطفل المرمي ينظرُ، ويرفسُ بيديه ورجليه، وهو من صراخ لصراخ!
اللعنة.. تباً لهم.. ظلت إيلين تصرخ، وتستفرغ.. ولم تنته الحكاية: أحرق الجنودُ، كل النساء المغتصبات، في الأكواخ، ومشوا في مارشات عسكرية، إلى أكواخ أخرى!.. لم أعد أشفق. الإشفاق إحساس، ليس من حيلة لديه، ولا قوة.. ولا من ثمة مروءة.. إنني بتُ أرثى لحالة إيلين.. ولا أتحرج-إطلاقا- من سب هذا العالم..
هذا العالم الصفيقُ اللا مكترث.

بقلم : هاشم كرار
copy short url   نسخ
16/10/2016
1348