+ A
A -
قبل أعوام طويلة لا أذكرها لكنني متأكدة بأنها حبل من السنين، تفاجأت بصديقتي التي تكبرني بثمانية أعوام، بأنها مدمنة «شات رووم» أي غرف المحادثات، كانت لا تزال عروسا بقراطيسها كما نقولها بلهجتنا الدارجة، كتأكيد بأنها عروس اللحظة الآنية، كنت لا أزال مغرمة بها فقد كنت أتخيلها خليطاً من المارشميلو وحلوى شعر البنات الملون، لازلت أتخيلها بسمنتها وميلها إلى القصر، بحذائها الأبيض ذي الشرائط الفضية، وهي تحاول أن تكون في ليلة عرسها بطول زوجها، الذي تزوج فقط لأنه وجد نفسه غريباً في مدينة لا يعرف بها سوى عامل المطعم، الذي كان يجلب له أرز البخاري ونصف شواية دجاج، أراد أن يتزوج فاختار له أحدهم أخت صديقه، وكان يعلم بأنها موظفة ولديها راتب فخم، كنت أعرف أنها مجتهدة جداً في عملها، وكأي فتاة كانت تحلم بالزواج، وتزوجت، وبدت في ليلة عُرسها، أسعد عروس مرت بخاطري، فلم أجد عروسا
بمثل سعادتها العظيمة، وكأنها فارس استطاع بمفرده أن يحتل 50 مدينة من دون حصار.
كنت أفكر دوماً ما الذي يدفعها لأن تقضي ساعات طويلة في غرف المحادثات، لأن تمضي الوقت تتحدث مع أسماء وهمية، وتقص على متابعيها حكايات لم تعشها يوماً ما في حياتها، وأحياناً كانت تظهر بمعرف رجل، وتتحدث مع الفتيات وتحل مشاكلهن الشخصية، لازلت حتى الآن أذكر مُعرفها الوهمي «الجنتل»، فجأة أفصحت لي عن رغبتها الطويلة في أن تبقى في هذه الحياة المزدوجة، وأن الساعات التي تقضيها في غرف المحادثات تخرجها من كوابيس عدّة، وقالت لي «أجمل ما في هذه الدردشات أنني لستُ أنا، أحياناً أكون الصبية الجميلة الشهية كقطعة كعك، وحيناً أتحول إلى شخصية الرجل الثري الذي يستطيع أن يحل جميع مشاكل الفتيات، من دون أن يستغل احتياجاتهن العاطفية»، صراحتها الفاقعة ووضوحها اللافت معي، جعلاني رغماً عني أفضل الابتعاد عنها ولو لفترة وجيزة، إذ لم أكن أملك القوة النفسية لأتقبل تصرفاتها المزدوجة، وجاء هذا الحوار بعد نقلها من مكان عملها الذي لطالما أبدعت وأخلصت وأفنت أيامها فيه، زادت الشكاوى من العملاء عن انغراقها الكامل بالطقطقة على جهاز الكمبيوتر من دون توقف، ولم تتحمل رئيستها البريطانية الجنسية ثقل الشكاوى فآثرت نقلها، وباتت كل شهرين تتصل بي من رقم هاتف مختلف، تخبرني فيه أنه تم نقلها وتأمل بأن يكون هذا المكان هو الأخير لها، ولكن للأسف... لم يعد أحد يستطيع تحمل توهانها وصمتها الدائم ووجودها اللامثمر، وفجأة، اختفت من الحياة والوجود، لقد كانت جريئة جداً حينما اعتزلت الجميع بعد حادث طلاقها.
أتذكرها الآن وأشتاق إلى حزنها الذي لا يمكن لي تحديد لونه، لقد كانت صديقة حقيقية رغماً عن الأوهام التي غرقت بها جعلتها في عُزلة عن الآخرين، أدعو الله دوماً أن تكون بخير، وتأكدت الآن لماذا الناس اندفعت بكامل قوتها، ما أن ظهر برنامج التواصل الاجتماعي «الفيسبوك»، ربما لأنه كان البرنامج الوحيد الذي حل مشكلة خوف الآخرين من الإفصاح عن حياتهم، حينما تتبادل صورك مع متابعيك، فهم يشعرون بأنك شخص حقيقي، ولا يمكن أن تشبه الجنتل الذي كانت تتخفى به صديقتي لتحادث الفتيات وتحل مشاكلهن، وهي التي لم تكن تملك الحلول الجيدة لأن تصنع لها حياة جديرة بالمباهاة.
لقد كانت العروس البدينة، تتخفى لتهرب عن مشاكلها مع زوجها بالانغراق الكامل في تصفح شاشات غرف المحادثات الوهمية، حتى أنها لم تلحظ انتفاخ بطنها ولم تفرح بحملها، لا أعرف من هو السبب في إدمانها ثم عزلتها ثم تركها للعمل، هل هو زوجها أم الشخصيات المركبة التي كانت ترغب أن تعيش طويلاً بداخلها؟ حتى ظهر «الفيسبوك» ولم تعد تظهر مرة أخرى بمعرفها السابق «الجنتل»!.
بقلم : سارة مطر
copy short url   نسخ
09/10/2016
2992