+ A
A -
سبق أن كتبت مقالا عن الشخصية القطرية لم ينشر خارج المدونة، هذا المقال يُعد استكمالا له يبين الخطوط العريضة لملامح الشخصية القطرية الحالية.
أبهرت الشخصية القطرية في السنوات القليلة الماضية العالم، فمن جهة قطر من أصغر دول العالم مساحة وسكانا، ومن جهة أخرى أكثر البلدان تأثيرا وصخبا إعلاميا تكاد تكون قبلة المتخاصمين والمتآلفين كذلك، برزت شخصيات قطرية على المستوى الاقليمي والعالمي ولايزال تأثير بعضها فعالا واسما مدويا في دهاليز السياسة والاقتصاد على الصعيد العالمي.
تشكلت الشخصية القطرية عبر انسياب تاريخي من شظف العيش في الصحراء وقيمها إلى ريع النفط وتأثيراته الجانبية، ومن سماحة الدين إلى التعايش مع تلاوين الدين السياسي في سباته وفي يقظته. وفي الحديث عن الخصائص العامة للشخصية القطرية تبرز فكرة «التلقائية» كفكرة محورية في التعامل مع الأحداث، تلقائية رجل الصحراء الموقن بعدالة السماء والمتوكل على الله في جميع أفعاله وخطواته. أحدث قيام الدولة سياقا آخر إلى جانب سمات الشخصية القطرية لتمرير وجود الدولة فكان محاذيا لها ولم ينشأ من داخلها وإنما لبسته لباسا، جعل من السهل لاحقا أن تبرز تضاريسها بشكل أكثر حدة بعدما تراجعت فكرة الدولة الوطنية من الاذهان بتأثير الريع وسرعة السير والقفز أحيانا لتحقيق أهداف كبيرة وضخمة لا تتماثل وحجم وعدد السكان، فسياق الدولة كان له المجال بعد الاستقلال، عندما ظهرت طبقة وسطى حكومية هشة، تحمل قيم الطبقة الوسطى وتتمتع بقدر من الاستقلال الثقافي والمادي إلى حد ما بموافقة الدولة، وبرزت مؤسسات الدولة الحكومية وطبقة من موظفي الدولة الكبار لهم مكانتهم وأماكنهم الرسمية والترفيهية وتميزت هذه الفترة بتدرج في التغيرات فمثلت تلك الحقبة حقبة من الاستقرار على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي. إلا انه بعد ذلك حصل تغير راديكالي كبير في التحول من قيم المدينة الذي زرعتها الدولة مع بداية قيامها إلى قيم الريف والبداوة فنزحت الخيام على المدينة أو جرى بالاحرى خيمنة المدينة. ولا يستطيع أحد أن ينكر دور القبيلة في مجتمعاتنا العربية قاطبة، ولكن قيم القبيلة أسمى شأنا من كثير من قيم البداوة ويلاحظ بعد ذلك غياب أو تراجع ظهور سياق الدولة كماهو في السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم أمام سياق التراث الذي لم نستطع تحديده بصورة مثلى تجعل منه معاصرا ضمن قيم الدولة، مما أدى إلى تغير واضح في سمات الشخصية القطرية، فتغلبت قيم التراث في صورتها البدوية على قيم المدينة، وأصبحت صفة التحضر تقترن بالبحر وأهله ونشاطاته، ولم يكن هناك ربط واضح لقيم الانتاج ضمن الشخصية القطرية الجديدة وانما استعيض عنها بممارسة هوايات التراث التي كانت يوما تعد أعمالا إنتاجية. فبرزت قيما انتهازية جديدة للتحايل للوصول إلى مصادر الريع، وسيطر فكر الغنيمة على المجتمع طالما كان الموضوع مجرد إعادة لإنتاج وتوزيع لا استنبات وزرع. وكانت مثل هذه القيم التي كانت قيما إنتاجية في السابق إلا انها اليوم كرست ثقافة الغنيمة اكثر من ذي قبل، مع تراجع دور الوظيفة الحكومية أمام الوظائف الانتهازية، كذلك برز مفهوم آخر هو مفهوم الهيمنة ليس في المجال الاقتصادي والمالي حيث الريع المادي بل في المجال الاجتماعي كذلك، فلم يكتف الفرد بالعائلة ولا بالقبيلة بل إلى المرجعية القبلية الأولى في قبائل الجزيرة الكبرى فاصبحنا أمام ريع اجتماعي لا ينضب، في حين اصبحت العلاقات عمودية بشكل كبير داخل المجتمع حيث أفرزت العلاقة الجديدة المتكونة من ثنائية الريع الاقتصادي والريع الاجتماعي الذي ذكرت، نمطا في العلاقة العمودية القائمة على مستوى الاستفادة بين اطرافها بحيث يتسع المجال لريوع اقتصادية واجتماعية جديدة كلما تضخمت المنفعة بين اطراف العلاقة لذلك رأينا فقاعات اقتصادية كبيرة تتكون في يوم وليلة ويزداد تأثيرها يوما بعد آخر داخليا واقليميا وعالميا، فانضوت الدولة داخل هذه العلاقات بشكل خجول وبدا موظفها أقل من أن يذكر أو أن يشار إليه، مما افقد المجتمع خاصية التراكم الاداري القادر على التشغيل الذاتي فالجميع يتعامل مع الرأس ويذهب هو ويبقى الرأس وهكذا مما أفقد الإدارة خاصيتها في التراكم الايجابي للخبرة والانتاجية، ثم تصاب الذاكرة الجماعية في مقتل بعد إزالة فرجان تاريخية بأكملها ويبقى إنسانها محتفظا بذاكرته إلى حين ثم ينتهي التاريخ ليبدأ من جديد مع جيل آخر، بلا شواهد تاريخية لأجياله السابقة، الأمر الذي يجعله في موقف لا يحسد عليه مع القادم الجديد الذي اصبح مساويا له ماعدا مايمتلكه من الصور في ذاكرة الاول عن الماضي وشخوصه.
إن الهدف من هذا المقال هو التذكير وجلب الانتباه إلى الشخصية القطرية فهي لاتزال تمتلك الكثير ولاتزال تمتلك البنية التحتية والمادة الخام اللازمة للتكيف والتحول ضمن برنامج وطني شامل تتولاه الدولة لإعادة إحيائها من جديد، فقد صمدت هذه الشخصية في الماضي أيام الفقر والعوز، ونجحت في إثبات ذاتها والمحافظة على وطنها وكيانها والدفاع عن ترابها، وهي قادرة اليوم على التكيف من جديد بشرط عدم استلابها وبقليل من الثقة فيها وفي قدرتها بل وحقها في أرضها ومكتسابتها وثروتها.
بقلم : عبدالعزيز الخاطر
أبهرت الشخصية القطرية في السنوات القليلة الماضية العالم، فمن جهة قطر من أصغر دول العالم مساحة وسكانا، ومن جهة أخرى أكثر البلدان تأثيرا وصخبا إعلاميا تكاد تكون قبلة المتخاصمين والمتآلفين كذلك، برزت شخصيات قطرية على المستوى الاقليمي والعالمي ولايزال تأثير بعضها فعالا واسما مدويا في دهاليز السياسة والاقتصاد على الصعيد العالمي.
تشكلت الشخصية القطرية عبر انسياب تاريخي من شظف العيش في الصحراء وقيمها إلى ريع النفط وتأثيراته الجانبية، ومن سماحة الدين إلى التعايش مع تلاوين الدين السياسي في سباته وفي يقظته. وفي الحديث عن الخصائص العامة للشخصية القطرية تبرز فكرة «التلقائية» كفكرة محورية في التعامل مع الأحداث، تلقائية رجل الصحراء الموقن بعدالة السماء والمتوكل على الله في جميع أفعاله وخطواته. أحدث قيام الدولة سياقا آخر إلى جانب سمات الشخصية القطرية لتمرير وجود الدولة فكان محاذيا لها ولم ينشأ من داخلها وإنما لبسته لباسا، جعل من السهل لاحقا أن تبرز تضاريسها بشكل أكثر حدة بعدما تراجعت فكرة الدولة الوطنية من الاذهان بتأثير الريع وسرعة السير والقفز أحيانا لتحقيق أهداف كبيرة وضخمة لا تتماثل وحجم وعدد السكان، فسياق الدولة كان له المجال بعد الاستقلال، عندما ظهرت طبقة وسطى حكومية هشة، تحمل قيم الطبقة الوسطى وتتمتع بقدر من الاستقلال الثقافي والمادي إلى حد ما بموافقة الدولة، وبرزت مؤسسات الدولة الحكومية وطبقة من موظفي الدولة الكبار لهم مكانتهم وأماكنهم الرسمية والترفيهية وتميزت هذه الفترة بتدرج في التغيرات فمثلت تلك الحقبة حقبة من الاستقرار على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي. إلا انه بعد ذلك حصل تغير راديكالي كبير في التحول من قيم المدينة الذي زرعتها الدولة مع بداية قيامها إلى قيم الريف والبداوة فنزحت الخيام على المدينة أو جرى بالاحرى خيمنة المدينة. ولا يستطيع أحد أن ينكر دور القبيلة في مجتمعاتنا العربية قاطبة، ولكن قيم القبيلة أسمى شأنا من كثير من قيم البداوة ويلاحظ بعد ذلك غياب أو تراجع ظهور سياق الدولة كماهو في السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم أمام سياق التراث الذي لم نستطع تحديده بصورة مثلى تجعل منه معاصرا ضمن قيم الدولة، مما أدى إلى تغير واضح في سمات الشخصية القطرية، فتغلبت قيم التراث في صورتها البدوية على قيم المدينة، وأصبحت صفة التحضر تقترن بالبحر وأهله ونشاطاته، ولم يكن هناك ربط واضح لقيم الانتاج ضمن الشخصية القطرية الجديدة وانما استعيض عنها بممارسة هوايات التراث التي كانت يوما تعد أعمالا إنتاجية. فبرزت قيما انتهازية جديدة للتحايل للوصول إلى مصادر الريع، وسيطر فكر الغنيمة على المجتمع طالما كان الموضوع مجرد إعادة لإنتاج وتوزيع لا استنبات وزرع. وكانت مثل هذه القيم التي كانت قيما إنتاجية في السابق إلا انها اليوم كرست ثقافة الغنيمة اكثر من ذي قبل، مع تراجع دور الوظيفة الحكومية أمام الوظائف الانتهازية، كذلك برز مفهوم آخر هو مفهوم الهيمنة ليس في المجال الاقتصادي والمالي حيث الريع المادي بل في المجال الاجتماعي كذلك، فلم يكتف الفرد بالعائلة ولا بالقبيلة بل إلى المرجعية القبلية الأولى في قبائل الجزيرة الكبرى فاصبحنا أمام ريع اجتماعي لا ينضب، في حين اصبحت العلاقات عمودية بشكل كبير داخل المجتمع حيث أفرزت العلاقة الجديدة المتكونة من ثنائية الريع الاقتصادي والريع الاجتماعي الذي ذكرت، نمطا في العلاقة العمودية القائمة على مستوى الاستفادة بين اطرافها بحيث يتسع المجال لريوع اقتصادية واجتماعية جديدة كلما تضخمت المنفعة بين اطراف العلاقة لذلك رأينا فقاعات اقتصادية كبيرة تتكون في يوم وليلة ويزداد تأثيرها يوما بعد آخر داخليا واقليميا وعالميا، فانضوت الدولة داخل هذه العلاقات بشكل خجول وبدا موظفها أقل من أن يذكر أو أن يشار إليه، مما افقد المجتمع خاصية التراكم الاداري القادر على التشغيل الذاتي فالجميع يتعامل مع الرأس ويذهب هو ويبقى الرأس وهكذا مما أفقد الإدارة خاصيتها في التراكم الايجابي للخبرة والانتاجية، ثم تصاب الذاكرة الجماعية في مقتل بعد إزالة فرجان تاريخية بأكملها ويبقى إنسانها محتفظا بذاكرته إلى حين ثم ينتهي التاريخ ليبدأ من جديد مع جيل آخر، بلا شواهد تاريخية لأجياله السابقة، الأمر الذي يجعله في موقف لا يحسد عليه مع القادم الجديد الذي اصبح مساويا له ماعدا مايمتلكه من الصور في ذاكرة الاول عن الماضي وشخوصه.
إن الهدف من هذا المقال هو التذكير وجلب الانتباه إلى الشخصية القطرية فهي لاتزال تمتلك الكثير ولاتزال تمتلك البنية التحتية والمادة الخام اللازمة للتكيف والتحول ضمن برنامج وطني شامل تتولاه الدولة لإعادة إحيائها من جديد، فقد صمدت هذه الشخصية في الماضي أيام الفقر والعوز، ونجحت في إثبات ذاتها والمحافظة على وطنها وكيانها والدفاع عن ترابها، وهي قادرة اليوم على التكيف من جديد بشرط عدم استلابها وبقليل من الثقة فيها وفي قدرتها بل وحقها في أرضها ومكتسابتها وثروتها.
بقلم : عبدالعزيز الخاطر