+ A
A -
من كثرة ما يسمعه المرء عن مشكلات العرب، يكاد يعتقد أنهم حالة خاصة واستثناء لم تعرفه البشرية وأن فيهم فرادة لا تفارقهم.. لكن من يتأمل حال مناطق أخرى مثل جنوب وجنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية بل وحتى المناطق الأكثر حظاً في التنمية والديمقراطية مثل أوروبا وأميركا الشمالية قد يعيد النظر في تشاؤمه من العرب وحدهم ليتشاءم من الإنسان عامةً أينما كان. فالعرب ليسوا إلا جزءاً من حالة غضب إنسانية عامة ينتاب الجميع فيها قلق وجودي يتشابهون فيه بصرف النظر عن خلفياتهم التاريخية والدينية واللغوية والفكرية.. وكلما جال المرء بنظره حول العالم أدرك أن الفارق بين العرب وغيرهم ليس في نوع المشكلات وإنما في درجتها وطريقة التعامل معها.
وأمام تحديات عربية وعالمية تزداد عدداً وتعقيداً، فإن خفض مستوى التوقعات يصبح أسلم إجراء يمكن لعاقل أن يتبعه.. التوقعات الصفرية هي الحل خاصة مع الحالات المزمنة.. والحالة العربية واحدة من بينها.. صحيح أن بناء التوقعات له فائدة لكن إلغاءها أحياناً قد تكون له فائدة أكبر.. من الناحية المهنية البحتة فإن كثيراً من الشركات والمؤسسات والحكومات مطالب بتقديم توقعاته إما عن السنة الجديدة أو عن مدة زمنية محددة.. رجل الاقتصاد مثلاً عليه أن يتوقع حركة الأسواق، والمشتغل بالأرصاد الجوية مطلوب منه توقع حركة الرياح ودرجات الحرارة.. والرياضيون يتوقعون نتائج المباريات بناء على معطيات تخص مهارات واستعدادات المنافسين.. ومثل هذا النوع من التوقعات الإجرائية لا غبار عليه لأنه جزء لا يتجزأ من طبيعة مهن كثيرة.
أما التوقعات الفلسفية التي تعقد الأمل على شخص أو جماعة أو أمة أو فترة أو فكرة فمسألة يختلف الناس حولها. الإمام «جلال الدين الرومي» اعتبر أن الإنسان المؤمل المتوقع للجزاء والإحسان يكون أكثر نشاطاً ومثابرةً على العمل وأن التوقعات المستبشرة عن الغد تشبه الجناح الذي يضرب به الطائر في الهواء ليطير.. ومع أن «بيل جيتس» يأتي من عالم مختلف عن عالم التصوف الذي عاش فيه الرومي، إلا أنه انتهى كرجل ابتكار وأعمال إلى أن التوقعات عبارة عن صورة راقية للحقيقة التي نتمناها وأن الإنسان متى آمن بها يمكن له أن يُحققها.
لكن هذه التفسيرات على جمال منطقها لا تنفي أن التوقعات التي نبنيها في الرؤوس كثيراً ما تحولت في الحقيقة إلى كوابيس وأن الناس لو قللوا آمالهم إلى أدنى حد لكانت أحوالهم، على الأقل النفسية، أطيب وأفضل.. وأشير هنا إلى أن نظرية علمية متكاملة تطورت في الدراسات الإنسانية حذرت مما بات يعرف بثورة التوقعات المتزايدة.. فمنذ 1856 عندما كتب الباحث الفرنسي الشهير «أليكس دو توكفيل» كتابه المعروف «النظام القديم والثورة» وعشرات الباحثين ينهلون من حديثه عن خطورة التوقعات المتزايدة في توجيه الفعل الإنساني.. من هؤلاء «جيمس ديفيز» الباحث بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا والذي نشر في فبراير 1962 دراسة مهمة في مجلة الرابطة الأميركية للدراسات الاجتماعية بعنوان «نحو نظرية للثورة» انتهى فيها إلى أن رفع توقعات الناس وزيادة آمالهم خاصةً بعد طفرة ارتفعت فيها مستويات معيشتهم هو المسؤول عن مزاجهم الثوري متى ما بدأت المؤشرات الاقتصادية في الهبوط.. وبالتالي فإن من يحتاج إليه الإنسان ليس شخصاً يرفع سقف توقعاته وإنما شخص يوقظه وينبهه إلى أن هذا السقف قد ينهدم فوق رأسه.
لهذا فالتوقعات الصفرية ليست دعوة للتشاؤم وإنما هي استراتيجية لحماية الذات الفردية والجماعية على السواء من السقوط في فخ الفوضى والقلق.. إن أكثر التوقعات إسعاداً للنفس هي التوقعات الصفرية.. فعندما تتوقع كفرد من كل من حولك صفراً فلا تنتظر من هذا شيئاً ولا تتوقع من ذاك عطاءً أو من أولئك أن يفهموك أو من هؤلاء أن يزوروك فستكون بلا شك سعيداً. وبالمثل، ولكن على نطاق أوسع، سيكون العقل الجمعي أكثر اتزاناً عندما لا نتوقع مثلاً من العرب ديمقراطية أو من أميركا وفاءً أو من روسيا عدلاً أو من داعش عقلاً.. بمثل هذه التوقعات الصفرية يمكن أن يعصم المرء نفسه من وهم العيش آمناً في قلعة من الرمال.. لو جاء الخير فأهلاً به وسهلاً.. أما الإصرار على أنه سيأتي فقد يعشم الواحد منا بالأمل لكنه عادةً ما يعود ليهوي كالنصل على الرقاب. الصفر ليس عبثاً وإنما هو رقم سحري. والتوقعات الصفرية ليست تشاؤماً بل هي أحياناً عين العقل والحكمة.

بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
26/09/2016
2552