+ A
A -
لا تعمير بدون تكسير، ولا بناء بدون هدم. لن ترتفع منشأة فوق بناء آيل للسقوط أو ينهض عمران على أنقاض مبنى سقط بالفعل. ولا ينفي ذلك إمكانية ترميم القديم إذا لم تكن قواعده مستها عيوب تؤثر على سلامته. أما لو كان العيب في الأساس فلا بد من تسوية القديم بالأرض قبل وضع حجر أساس آخر. ولا تختلف النظم السياسية والاجتماعية والثقافية عن العمارات والأبراج إلا في أن بنيتها أكثر تعقيداً. لكنها بالمثل يجب متى فشلت أن تسوى بالأرض لترتفع أخرى مكانها.
فهذه النظم من صنع الإنسان مثلها مثل المنشآت المعمارية التي يشيدها على ذوقه ثم يغيرها أو حتى يهدمها كلما تغيرت حاجاته. ولذا فمن الطبيعي، بل من الواجب، أن تتغير النظم السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية هذا لو كانت قابلة للإصلاح. أما إن لم تكن فلا بد أن تزال ويرفع ركامها حتى لا يتحول إلى عبء يحول دون بناء غيرها.
التكسير السليم مقدمة للتعمير السليم. وقد كتب في هذا الصدد الاقتصادي النمساوي الأميركي الشهير «جوزيف شومبيتر» سنة 1943 كتاباً بعنوان «الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية» استعمل فيه تعبير «التدمير الخلاق» CREATIVE DESTRUCTION أوضح فيه أن آليات السوق الفعالة لم تكن لتظهر مع الرأسمالية قبل أن تكتمل عملية الهدم التي أحدثتها الثورة الصناعية في بنية النظم الاقتصادية القديمة. ولأن الشيء بالشيء يذكر فلا أظن أن أحداً نسي تعبير «الفوضى الخلاقة» CREATIVE CHAOS الذي استعملته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة «كوندوليسا رايس» بشأن الشرق الأوسط إشارةً إلى أن إعادة بنائه لا بد أن يسبقها هدم يقضي على ما فيه من نظم متهالكة.
ومع أن العرب لم يطيقوا أطروحة التدمير الخلاق، إلا أن لهم باعاً في الهدم والتكسير. لكن تكسيرهم لم يكن تمهيداً للتعمير، وإنما لترقيع القديم بالجديد والتدليس على الذات وإيهامها بقشرة خارجية لامعة تداري عن عيونهم عطن الداخل وتعفنه. وأي مدقق في طريقة العرب في التكسير والتعمير يستطيع أن يرصد عقبات تحول دون التفاؤل والأمل. والمشكلة ليست فقط في أنهم لا يعرفون ماذا يعمرون وإنما في أنهم أيضاً لا يعرفون ماذا يكسرون أو كيف أو متى يكسرونه. فالهدم عند العرب فيه أخطاء مثل البناء. التكسير عندهم كما التعمير يجري بلا رؤية.
أما التكسير فتؤخذ عليهم بشأنه ثلاثة أمور. أولها التردد من الأصل فيه وتأخيره كثيراً. فلديهم دائماً حنين للقديم يجعلهم يترددون في الهدم ويدفعهم عند استشعار الضرورة إلى تلفيق الجديد بالقديم ووضع الحديث فوق المتهالك في لوحة تعج بالتشوه. من فتاة تضع غطاء رأس يستر شعرها لكنها ترتدي ملابس ضيقة، إلى انتخابات تبدو حديثة تدعي النزول على الإرادة الشعبية لكن روحها قديمة للغاية عندما تُجير نتائجها بالكامل لمزاج الحاكم.
وثاني العيوب أنهم يتخبطون في التكسيرين معاً: التكسير الكلي والتكسير الجزئي. في الثورة والإصلاح. لا ثوراتهم أرست مبادئ جديدة لا تُنتهك ولا إصلاحهم سجل إضافات كمية تؤدي إلى تغيير كيفي. والعيب الثالث أن التكسير لديهم عادةً ما يكون انتقامياً وشخصياً لا يوجه مثلاً ضد الطائفية وإنما ضد طائفة أو ضد الفقر وإنما ضد الفقراء أو ضد المرض وإنما ضد المرضى.
أما التعمير فينطوي هو الآخر على ثلاثة عيوب: أولها أنه مستورد إما كخطة أجنبية مفروضة أو كوكالة عن راع دولي أو تقليداً لتجربة غربية. تعمير ليس فيه ابتكار بقدر ما فيه استسهال لمحاكاة شكلية للمتقدمين. والعيب الثاني أنه تعمير انتفاعي يديره رجال أعمال لا إعمار. تعمير مليء بالسمسرة والعمولات تنتفع منه شرائح محدودة تمثل طبقة مخملية تجتهد لإقناع الفقراء بالوطنية لتستحوذ هي على الوطن.
وأخيراً هو تعمير يحمل في طياته بذور التدمير. يسمح مثلاً بتأسيس أحزاب لكنه يمنع السياسة ليدفع الغاضبين إلى العمل السري والعنف.
إن منهج العرب في التكسير والتعمير متخبط. غير جاد في الهدم وغير قادر على البناء. يهدم بمقدار لا يتيح الفرصة للبناء ويبني بمقدار لا يساعد الجديد على البقاء. وما هذا وذاك إلا لأن العيب الأكبر يكمن في الرأس وطرق التفكير. فهي في حاجة بدورها إلى الهدم والاستبدال. وتلك هي المهمة الأصعب لكنها ستبقى لازمة لبناء مجتمع جديد بتفكير جديد وشجاعة جديدة في الهدم والبناء. مجتمع جديد وإلا فلننتظر كارثة كما حذر الفيلسوف النابه «زكي نجيب محمود» رحمة الله عليه قبل نحو ثلاثة عقود.

بقلم : د.ابراهيم عرفات
copy short url   نسخ
19/09/2016
1784