+ A
A -
هناك مقولة تبجيلية للفيلسوف الألماني نيتشه، لا يمتدح فيها الكتاب الرديئين بصفتهم الشخصية، ولكنه يمتدح ضرورة وجودهم شيئاً يشبه امتداح المرض لأنه سبب لوجود العلاج، ويقول بطريقة مباشرة، وساخرة، إن وجود القارئ الرديء متقدم بخطوة على وجود الكاتب الرديء، لأنه السبب في وجوده، بل هو من يطالب بوجوده:
«من الضروري أن يكون دائماً هناك كتاب رديئون، لأنهم يرضون ذوق الأجيال الناشئة التي لم تنضج بعد، هؤلاء أيضاً لهم حاجياتهم تماماً مثل الآخرين الناضجين.
لو أن حياة الإنسان كانت أطول لكان عدد الأفراد الناضجين يفوق، أو على الأقل يساوي عدد الأفراد غير الناضجين، وبما هي عليه الآن فإن الناس يموتون شبابًا في أغلب الأحيان، أي أن أغلبية الناس هم دائماً ناقصو الذكاء ذوو الذوق الرديء. وهم يطالبون زيادة على ذلك، بكل ما أوتوا قوة الشباب، بإرضاء حاجياتهم ويُوجِدُون بالقوة تلك كتاباً رديئين يخدمونهم).
لكن هذه نصيحة فلسفية لا يجب أخذها على محمل الجد، هي تميل إلى كونها توصيفا لما يحدث، لا لما يجب أن يحدث، لكن النصيحة التي تفوق ما قاله نيتشه من حيث الأهمية، الأهمية الواقعية، هي ما نصح به شاعر ألماني آخر، في الطريقة المثلى التي يجب أن يتبعها الكاتب قبل أن يهم بالكتابة، إذ عليه قبل أن يفكر في الكتابة وهو ما يقوله راينر ماريا «أن يرى أولاً مدناً كثيرة، ويتعرف على الناس والأشياء والحيوانات، ويشعر كيف تحلق الطيور ويدرك الحركات الدقيقة التي تتفتح عبرها الزهور الصغيرة في الصباح، على المرء أن يكون قادرا على استعادة وتمثل الشوارع والدروب في النواحي المجهولة وأن يتمثل اللقاءات والافتراقات غير المنتظرة تلك التي رآها منذ زمن بعيد، وأن يتذكر أيام الطفولة التي لم تتضح معانيها بعد، أن يتذكر والديه اللذين كان يسيء اليهما ويزعجهما كلما رآهما يدخلان الفرح إلى نفس إنسان غيره إذ إن تلك مجرد فرحة للآخرين على المرء أن يتذكر ايام الصمت والسكينة والانتظار في الغرف المتطامنة الصامتة والصباحات عند ساحل البحر، أن يفكر في البحر على نحو خاص، في البحار عموما وفي ليالي الاسفار، أن تكون له ذكريات عن ليالي حب حمراء لا تشبه فيها الواحدة الأخرى، وعن صرخات المخاض والوضع والنساء النفساوات البيضاوات الملمومات إلى بعضهن، على المرء أن يكون قد جلس بالقرب من المحتضرين وسهر إلى جانب الموتى في حجرة بنافذة مشرعة وأصوات متناوبة، ولا يكفي أن تكون للمرء ذكريات بل يجب عليه أن يكون قادرا على نسيانها إن كانت كثيرة وأن يكون على قدر كبير من الصبر لاستحضارها من جديد، إذ إنها لم تتحول بعد إلى ذكريات، حينئذ فقط، حين تصبح الأشياء دما يسري في عروقنا وحركة بلا اسم يصعب التفريق بينها وبين أنفسنا، حينئذ فقط يمكن أن تتشكل الكلمة الأولى».. إذا هذه وصفة طويلة وشعرية لما يجب عمله والاهتمام به والانتباه له، في الرحلة التي على الكاتب قطعها ليصل إلى كلمته الأولى، يصل وهو ممتلئ بالصور، والذكريات، والتي يجب أن يمتلك أيضا القدرة على نسيانها. بالطبع يسبق كل هذا القراءة. القراءة في كل شيء، دون شرط ولا قيد، إذ إن اشتراط القراءة النوعية، أي مثل ما يقول سيوران ««إن ما يجعل الشعراء الرديئين أكثر رداءة، هو أنهم لا يقرؤون إلا الشعراء، في حين أنهم يجنون فائدة أكبر من كتاب في علم النبات أو الجيولوجيا»، وهذا ما ينطبق أيضا على كل أشكال الكتابة.

بقلم : ضيف فهد
copy short url   نسخ
18/09/2016
2389