+ A
A -
لقد تطلّب مني بعضَ الوقت؛ لأبيّن لأختي الصغرى - والتي لم تتجاوز 13 سنة- المعنى الحقيقي للصداقة، لقد مرّتْ بالكثير من التجارب التي أبت أن تُقنِعها أن الصديق له معايير خاصة وسمات معينة، حتى يتقلّد هذا الشرف. فليست كلّ من جالسَتْها صديقة، وليست كلّ من جاوَرتْها صديقة، وليست كل من أهدتها هدية صديقة، وليست كلّ زميلةٍ صديقة، وليست كلّ من قدّمتْ مساعدة صديقة.

ولأننا في زمنٍ لم يستمع فيه أغلب صغاره ومراهقيه لمنظومة «نغمة الأغاني في عشرة الإخوان»، لناظمها صدر الدين الشيرازي، وبصوت قارئها الشيخ توفيق الصائغ، فقد فاتتها هي وفات كثيرٌ من جيلها، المفهوم الحقيقي للصداقة وآدابها. ولو تعلموها في بواكير سنينهم وحفظوا منها بعضَ أبياتها، لأصبحوا بلا ريب أساتذةً لأنفسهم، ولأراحوا المجتمع من خيبات الآباء حين ينظرون لاختيارات أبنائهم من الأصدقاء.

ولعلّ فحوى المنظومة الرائع وما تشملهُ من قصصٍ وحكمٍ، بجانب أسلوبها الرصين والواضح جعلها جديرة بالقراءة والاستيعاب والحفظ. وهو ما ساقني لاختيارها في مقالي المتواضع هذا من بين ما ازدهر به الأدب العربي من أبيات شعر ونثر حول الموضوع ذاته. ولعل من أطرف ما جاء فيها (حكاية الدب وانعكاس فعله الجميل)، إلا أنّها طويلةٌ، ولا يسعني المجال لذكرها، لذا سأدرج مقاطع يسيْرة من بعض فصول المنظومة الغزيرة الفائدة والتي تعد مدرسة متكاملة في التربية والتأديب والتعليم فيمن يجب أن يُصادق ويُصاحب ويُصافى، ومن يجب تجنّبه، وتركه، والابتعاد عنه. إذ قال الناظم في فصل التعريف بالصديق والصداقة:

«قالوا الصديقُ من صَدق في ودّه وما مذق

وقيلَ مَنْ لا يَطعنَا في قولهِ أنْتَ أنَا...

وفَسّروا الصداقة الحُب حسبَ الطّاقة

وقالَ من قد أطلقَا هي الودادُ مُطلقَا

والآخرون نصوا بأنها أخصُ...

علامة الصديقِ عند أُولي التحقيق

محبةٌ بلا غرض والصدقُ فيها مُفترض

وحدّها المعقوْلُ عنديَ ما أقولُ

فهي بلا اشتباهِ محبَّةٌ في الله...».

وجاء في (فصل التحذير من صحبة الأحمق)، قول الناظم:

«لا تَصحبَنّ الأحمَق المائقَ الشَمَقْمَقا

عدو سوءٍ عاقلِ ولا صديقٍ جاهلِ

إن اصطحابَ المائقِ من أعظمِ البوائقِ

فإنّه لحُمقه وغوصهِ في عُمقِه

يُحب جَهلًا فِعله وأن تكونَ مِثله...»

وفي فصل (التحذير من صحبة الأشرار) يقول الناظم:

«وصحبة الأشرارِ أعظم في الإِضرارِ

من خدعةِ الأعداءِ ومن عُضال الدّاء

يُقبّحون الحَسنا ودأبهم قول الخَنا

شَأنُهم النَميمة والشّيمُ الذَميمة

إذا أردتَ تصنعُ خيراً بشخصٍ مَنعوا

الغلّ فيهم والحَسد والشرُّ حبلٌ من مَسد

إن مُنعوا ما طَلبوا تَنمّروا وكَلّبوا

واعرضوا إِعْراضا ومزّقوا الأعراضَا

ليس لهم صلاحُ حرامُهُم مُبَاح

لا يتَّقون قُبحا ولا يَعون نُصحا...»

وليس لمقالٍ بهذا الحجم أن يعطي المنظومة حقها الوافر من الحديث والشرح، وإنما ذكرتُها في سياق تجربةٍ خضتها؛ لتنبيه الأعزاء من أقارب وقرّاء، حول أهمية هذه المنظومة - وغيرها مما يحمل نفس المضامين- في تعليم الأبناء، فن اختيار الأصدقاء، وآداب التعامل معهم، وتجنّب الأصدقاء الوهميين، من أصحاب دموع التماسيح، وجلود الأفاعي، فالعلاقات الإنسانية لا يحل محلها كتاب، ولا آلة، ومقاطعة الناس ليسَ حلًّا لتجنّب شرورهُم. وإنما انتقاء الصديق عن قناعة ووعي يبقى الخيار الأمثل. والإنسان اجتماعيٌّ بطبعه.

كما أن «التعليم في الصغر كالنقش على الحجر».



بقلم : زهرة بنت سعيد القايدي

copy short url   نسخ
02/04/2016
4805