+ A
A -
اللافت في معظم العمليات الإرهابية التي وقعت مؤخرا في دول كفرنسا وبلجيكا وألمانيا أن السلطة المختصة كانت تملك سجلات اجرامية لمرتكبيها أو كانت على بينة مسبقة بتطرفها وارتباطها بجماعات التكفير والكراهية، لكنها تركتهم لشأنهم دون مراقبة لصيقة.
عاصرتُ في سنوات إعدادي لأطروحة الدكتوراه ببريطانيا في أواخر الثمانينيات صعود نجم أحد كبار متطرفيها الإسلاميين، وكان هذا المنحدر من أصول جنوب آسيوية يدعى كليم صديقي، وكان لا يكف عن استفزاز أهل البلاد الأصليين بدعواته الصريحة لتطبيق الشريعة في المملكة المتحدة وأسلمة المجتمع، حيث كان يدفع بزملائه كل يوم أحد إلى ركن الخطابة في «الهايد بارك» ليزمجروا، ويسخروا من الأسرة البريطانية المالكة بأحط الألفاظ، ويتهموها في شرفها ونسبها وأصلها.
كان هذا يحدث في ظل وجود الشرطة البريطانية وسماعها لكل ما يُقال دون أدنى تدخل من جانبها، بدعوى ان حرية الكلمة مكفولة للجميع، في ذلك الوقت المبكر، وقبل أن تنتشر موجة الإرهاب والتطرف الحالية، ساورتني شكوك حول احتمال احتضان المخابرات البريطانية لمثل هذه النماذج المنفلتة وترك الحبل لها على الغارب كي تستخدمها لاحقا في مأرب من مآربها.
بطبيعة الحال انتشى صديقي وزمرته ونما ريشهم وزاد غلوهم إلى حد تجرؤهم على إرسال رسالة إلى ملكة بريطانيا ورأس الكنيسة الإنجليكية يدعونها فيها إلى دخول الإسلام، بل يهددونها في سلامتها إذا لم تستجب، حيث ورد في تلك الرسالة عبارة «اسلمي تسلمي»! هكذا!. ورغم ذلك لم تحرك السلطات ساكنا ضد صديقي، الأمر الذي شجعه على تشكيل «البرلمان الإسلامي» في 1989 من أنصاره في عدد من المدن البريطانية لمناقشة شؤون الإسلام والمسلمين في بريطانيا وفي أي مكان من بلاد المسلمين.
توفي صديقي في 1996، تاركا خلفه تراثا من الكراهية والغلو والأفكار العبثية الذي استغله أعوانه ومريدوه في بناء كيانات جديدة أكثر تطرفا. فمن رحم أفكاره وبرلمانه الإسلامي ظهرت جماعات «الإسلام لبريطانيا»، و«المهاجرون»، و«عباد الرحمن»، و«الغرباء»، و«المحاكم الشرعية» وغيرها. هذه الجماعات والتنظيمات الشاذة التي لم يكن للمسلمين الأسوياء شأن بقيامها وخطاباتها العنترية ارتبطت بصورة أو بأخرى باسم شخصين محددين هما: البريطاني من أصل باكستاني «أنجم تشودري»، والبريطاني الآخر من أصل سوري «عمر بكري فستق».
ولئن صار عمر بكري فستق (هرب إلى لبنان في أعقاب تفجيرات لندن في 7 يوليو 2005) اليوم نسياً منسياً من بعد أن كانت صورته تحتل صفحات الجرائد وشاشات التلفزة تارة بسبب إمارته لتنظيم المهاجرين، وتارة أخرى بسبب دعوته لتكرار هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وتارة ثالثة بسبب نعيه لأسامة بن لادن بعد مقتله، فإن تلميذه وساعده الأيمن أنجم تشودري ظل طويلا يتحرك بحرية، ويتحدى القانون، ويتزعم المظاهرات في ذكرى هجمات 11 سبتمبر، ويحرق الأعلام البريطانية والأميركية، ويكفر كل مسلم بريطاني يشارك في الانتخابات العامة.
صحيح ان الحكومة البريطانية حظرت في 14 يناير 2010 جماعة «الإسلام لبريطانيا» التي كان يعمل تشودري متحدثا لها، وصحيح أنها استدعته إلى المحكمة أكثر من مرة، إلا أن الصحيح أيضا هو أنها تعاملت معه بليونة ولم تدنه بحجة «لم نجد أي دليل دامغ يثبت عليه تهمة الحض على العنف». لكن الدليل جاء في 2014، وذلك حينما انضم إلى تنظيم داعش الإرهابي وبايع زعيمه أبوبكر البغدادي. حيث تم اعتقاله في أعقاب تغريدة له على موقع تويتر قال فيها: «أسأل الله أن يوفق الخليفة». وفي هذا السياق قيل إن معاونيه ضغطوا عليه لاتخاذ موقف واضح وصريح مما يسمى بداعش.
مؤخرا وقع الفأر في المصيدة مجددا، فعنونت صحيفة «التايمز» افتتاحيتها بعنوان «العدالة أخيرا». فقد تمكنت الشرطة من العثور على أدلة تثبت صلة تشودري بتجنيد البريطانيين للقتال في سوريا والعراق، وهذه جريمة تصل عقوبتها إلى عشرة أعوام.
بقلم : د. عبدالله المدني
copy short url   نسخ
28/08/2016
1522